تحياتي بمناسبة ما طالب به الرئيس السيسى اليوم بتكثيف الجهود للحد من التضخم من خلال برامج وسياسات متكاملة ومتسقة فاننى اعيد نشر هذه الدراسة
معضلة ارتفاع الأسعار وانخفاض التضخم
عبد الفتاح الجبالى
يتساءل الكثيرون فى الآونة الحالية، عن صحة ما أعلن مؤخرا عن هبوط معدل التضخم للشهر الخامس على التوالي، ووصوله الى 25.7% على أساس سنوي، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء وكذلك تراجع معدل التضخم الأساسي، الذى يصدره البنك المركزي الى 24.4% في يوليو الماضي، بينما لا يشعرون بذلك نظرا لارتفاع أسعار العديد من السلع والخدمات التى يستهلكونها يوميا، خاصة الاستهلاكية منها؟ وهي تساؤلات مشروعة وتحتاج الى الايضاح.
أشار التقرير الشهري للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن الرقم القياسي لأسعار المستهلكين عن شهر يوليو إلى الاستمرار فى تراجع معدل التغير فى الأسعار على أساس شهرى للشهر الخامس على التوالي حيث تراجع بنسبة 0.4% ووصوله على أساس سنوي الى 25.7% وذلك بعد ان بلغ المعدل السنوي ذروته فى 2023/2024 حين وصل الى 35.4% وهى نسبة مازالت مرتفعة للغاية ولكنها تشير الى بدء التباطؤ فى معدل الزيادة فى الاسعار،
ومن المعروف ان التضخم وارتفاع الاسعار هما العدو الرئيسي لأصحاب الدخول الثابتة, من مكتسبي الأجور وأصحاب المعاشات لأنه يخفض القوى الشرائية لهم مما يزيد من الشعور بعدم التحسن في مستوى المعيشة، كما انه أيضا يؤثر سلبا على السياستين النقدية والمالية ويحد من الكفاءة الاقتصادية حيث يؤدى الى سوء تخصيص الموارد مما يضر بالاقتصاد القومي ككل. كما يسهم في زيادة أسعار الفائدة مما يقوض من سياسات التعافي الحالية ويؤدى الى ارتفاع مستويات الدين العام، مما ينذر بمخاطر الانهاء المبكر للسياسات الاجتماعية الحمائية وارتفاع معدلات البطالة كما ان موجة التضخم الحالية قد تحولت من تضخم ذي علاقة بالأجل القصير إلى طبيعة طويلة الأجل.
وتدلنا تجربة السبعينيات من القرن الماضي إلى أن ارتفاع التضخم لوقت طويل فى ظل ظروف ضعف النمو قد أدى لأزمة مديونية وأعقبه عقد من تراجع النمو وهكذا فإننا فى تحد لم يسبق له مثيل منذ عدة عقود. وهكذا تواجه تحديات عديدة أهمها صعوبة الحفاظ على الاستدامة المالية والاستقرار المالي.
ولاشك ان تراجع معدل التضخم لا يعنى بالضرورة انخفاض الأسعار ولكنه يشير ببساطة إلى أن الزيادة فى الأسعار قد تم احتواؤها او على الأقل لم تزد إلا بمعدلات أقل من المعدلات السابقة, وبعبارة اخرى فقد ترتفع الأسعار بنسب معينة وفى الوقت نفسه ينخفض معدل التضخم،
فعلى سبيل المثال قد يكون سعر السلعة 100 جنيه ثم ترتفع فى الشهر التالي الى 110 جنيهات وفى الشهر الذى يليه الى 115 جنيها، وهنا يشير معدل التغير فى الأسعار على أساس شهري إلى الانخفاض بينما الأسعار فى ارتفاع وينبغي ألا يفهم من ذلك أن هذا المؤشر غير صحيح بل على العكس من ذلك تماما إذ إنه يقيس الاتجاه العام للأسعار وبالتالي يضع أمام صانع القرار الصورة كاملة للتحرك
وهناك العديد من المؤشرات التى تقيس التضخم يأتي على رأسها الرقم القياسي لأسعار المستهلكين الذى يصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء والذى يقيس التغيير الذى يطرأ على أسعار مجموعة من السلع والخدمات التى يتم استخدامها لأغراض الحياة اليومية، ويعتمد على بحوث الدخل والإنفاق لعام 2017/2018 وعلى أساس أسعار 2018/2019 ويستخرج منها الأوزان النسبية للاستهلاك,
وعلى هذا الأساس يتم تجمع أسعار السلع الغذائية والخدمات شهريا، كما يتم تجميع بعض السلع ذات التغير المستمر فى الأسعار (مثل الخضراوات والفاكهة والدواجن والأسماك والطيور والبيض) أسبوعيا، وهنا نلحظ أن نسبة استهلاك الطعام والشراب تستحوذ على 44٫2% من الأوزان النسبية للجمهورية يليها المسكن والمياه والكهرباء والغاز بنسبة 17٫7% وبعد ذلك الرعاية الصحية 6% والنقل والمواصلات نحو 5%
ويقاس هذا التغير إما على أساس سنوي وهو ما يشير إلى التغير فى الرقم القياسي خلال شهر معين مقارنته بالشهر نفسه من العام السابق أو على أساس شهري حيث يقيس التغير خلال شهر مقارنة بالشهر السابق مباشرة، وهنا نلحظ أنه على الرغم من التراجع فى معدل ارتفاع الأسعار إلا أن معدل التضخم مازال مرتفعا ويدور فى المتوسط حول 35% خلال العام 2024، كما أن هناك العديد من السلع التى ارتفعت بشدة خلال الفترة الحالية مثل الألبان والجبن والبيض التى ارتفعت بنحو 266% والفاكهة بنسبة 32٫6% والخضراوات بنسبة 32٫4% والدخان 29٫9% والكهرباء والغاز بنسبة 40%
وعلى الجانب الآخر يقوم البنك المركزي المصري بقياس معدل التضخم الأساسي معتمدا على الرقم القياسي لأسعار المستهلكين مع استبعاد الخضر والفاكهة باعتبارها من العناصر الأكثر تقلبا، وكذلك العناصر المحددة إداريا إذ إن التقلبات فى هذه السلع تعوق الحكم على تغيرات الأسعار التى تتسم بالاستمرارية والتى يمكن بناء عليها تحديد الاتجاهات العامة للتضخم بصورة صحيحة،
ويلجأ البنك المركزي لهذا المؤشر لإجراء تحليل دقيق للأسباب المؤدية للزيادة فى الأسعار وبالتتالي تحقيق أهداف السياسة النقدية، إذ يشير القانون الى أن البنك المركزي يعمل على تحقيق الاستقرار فى الأسعار وسلامة النظام المصرفي فى إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة، وبالتنسيق مع الحكومة فى إطار المجلس التنسيقي، وهنا تتباين الآراء فى هذه المسالة وأصبح التساؤل هل المطلوب استقرار الأسعار بالمعنى العلمي المتفق عليه أو الالتزام بمعدل تضخم مناسب للاقتصاد القومى؟!
إذ إن الاستقرار الكامل للأسعار يشير إلى أن هدف السياسة النقدية هو تحقيق معدل تضخم يساوى صفرا، وأيضا إذا ارتفعت الأسعار فلابد أن تعود إلى سابق حالها بينما التضخم المعتدل يدعم الاستقرار ويجعل الاقتصاد فى حالة توازن حركى منتظم ويزيد من الناتج المحلى.
وهي المهمة التي اوكلها الدستور والقانون الى البنك المركزي حيث اشارت المادة 220 من الدستور الى ان أحد المهام الأساسية للبنك المركزي هي استقرار الأسعار ولهذا نص القانون 194 لسنة 2020 على هذه المسالة والتي كان قد تم النص عليها للمرة الأولى في القانون رقم 88 لسنة 2003.
في ضوء ما سبق أصبح البنك المركزي في مازق شديد فهو من جهة يبحث عن اليات السيطرة على التضخم وتجنب انفلاته، واحتواء اثاره السلبية والحفاظ على مصداقية السياسة النقدية. ومن جهة أخرى يرغب في الحفاظ على التعافي الاقتصادي. وبعبارة أخرى فإما تشديد السياسة النقدية عن طريق رفع معدلات الفائدة او الاستمرار في الحفاظ على معدلات الفائدة الراهنة. اى انه بين سندان النمو ومطرقة التضخم، وهي مسالة تتوقف على القراءة الدقيقة لطبيعة التضخم واسبابه،
هل هو مؤقت ولا يحتاج الى المزيد من السياسات النقدية؟ ام انه عميق ومستمر فترة زمنية طويلة ويحتاج الى التدخل؟
ومع تسليمنا الكامل بان جزء من هذا التضخم يعود الى التضخم المستورد، الا ان الجانب الأكبر يرجع للاختلالات الهيكلية في الاقتصاد المصري ونمط النمو خاصة الخلل في النمو بين القطاعات الخدمية والقطاعات السلعية، فحينما تنمو الأولى بدرجة اعلى من الثانية مع ما تحققه من دخول وارباح تمثل طلب متزايد على السلع، فاذا لم ينمو القطاع السعلى بنفس الدجة او أكبر، فان ذلك يؤدى الى المزيد من الارتفاع في الأسعار.
ومن المعروف ان الهدف الأساسي للسياسة النقدية هو الوصول الى معدل تضخم معتدل يدعم الاستقرار الاقتصادي ويجعل الاقتصاد فى حالة توازن حركي منتظم يزيد من الناتج المحلى، اى تحقيق الاستقرار فى الاسعار وضمان معدل تضخم يضمن تحقيق الاهداف التنموية للبلاد. مما يعزز من أهمية الحديث عن سياسة سعر الفائدة.
وتكمن المشكلة في التأثيرات المختلفة لسعر الفائدة فهو لا يؤثر فقط على معدل الاستثمار والادخار، بل يتعداهما ليشمل المالية العامة للدولة والدين العام وسعر الصرف وكذلك الجهاز المصرفي نفسه. فإذا كانت تؤثر على جانب العرض لأنها تؤثر على حجم الاستثمار ونوعيته وبالتالي على حجم الاقتراض وتوزيعه بوصفه عنصر من عناصر التكلفة، ومن ثم على نمو الإنتاج. فالمغالاة في أسعار الفائدة الحقيقة ترفع من تكلفة راس المال وتحد من الطلب على الاستثمار.
كما انها تؤدى الى الحد من التوسع فى الائتمان وتحويل الموارد المالية نحو المؤسسات الكبيرة القادرة على خدمة هذه الديون وبالتالي الابتعاد عن المؤسسات المتوسطة والصغيرة والتي يعول عليها كثيرا لامتصاص جزء من البطالة في سوق العمل. فضلا على ذلك فان ارتفاع اسعار الفائدة سوف يضعف من طلب القطاع العائلي على السلع وهذا من شانه الحد من الطلب الكلى وبالتالي النمو.
وهكذا إذا كان تحقيق الاستقرار الاقتصادي يترجم فى النهاية إلى هدف يرتبط بالتغيير فى الأسعار فإن الآراء تتباين حول ما إذا كان من الواجب على السياسة النقدية تبنى فكرة الاستقرار الكامل للأسعار أو الالتزام بمعدل تضخم تعتبره معقولا من وجهة نظرها. وهذا هو لب الحديث عن استقلالية البنك المركزي. ويرى ستانلي فيشر أن الحجج المؤيدة لاستقلالية البنك المركزي هى حجج من يبحثون عن أفضل الحلول من الدرجة الثانية. ولكن فى عالم يبحث عن أفضل الحلول فإنه يجب أن تكون السياستان النقدية والمالية متسقتين تماما.
ويرى البعض أن الزيادة فى عجز الموازنة هي السبب الرئيسي للتضخم اذ تؤدى إلى زيادة الطلب على النقد المتداول، الأمر الذى يحدث أثرا توسعيا على السيولة المحلية تقابله زيادة فى مطلوبات البنك المركزي من الحكومة. وهنا نلحظ انه ورغم تراجع عجز الموازنة من 7.1% عام 2020/2021 إلى 6٫2% عام 2021/2022 وإلى 6% عام 2022/2023 بينما تزايد النقد المصدر للناتج المحلى من 10.8% إلى 11.7% خلال نفس الفترة.
وعلى الجانب الآخر تدلنا القراءة التاريخية للاقتصاد المصري أن هناك علاقة عكسية بين ارتفاع التضخم وانخفاض عجز الموازنة. الأمر الذي يتطلب البحث فى أسباب هذه الظاهرة. ولا شك فى أن الإجابة عن الأسئلة السابقة ليست بالبساطة والسهولة التى يتصورها البعض خاصة، أن الدراسات تؤكد أن نفس مستوى العجز يمكن أن تنتج عنه آثار اقتصادية شديدة الاختلاف من دولة لأخرى وذلك حسب هيكل الإنفاق العام والهيكل الضريبي والأساليب المختلفة لتمويل العجز.
فهناك ارتباط وثيق بين الطريقة التي يمول بها العجز والتضخم. وهنا توجد عدة طرق لتمويل العجز، منها الاقتراض من البنك المركزي، أو الاقتراض من البنوك الأخرى، أو الاقتراض من القطاع العائلي، أو الاقتراض من الخارج. ويرتبط كل شكل من أشكال التمويل هذه بأحد الاختلالات الأساسية فى الاقتصاد القومي. فالاقتراض من البنك المركزي عن طريق طبع النقود بمعدل يتجاوز الطلب السائد يؤدى إلى أرصدة نقدية مفرطة مما يرفع فى النهاية المستوى العام للأسعار،
وتصبح هذه الوسيلة إحدى الآليات المحتملة للتضخم. أما الاقتراض من الجهاز المصرفي فإنه، رغم كونه لا يؤدى إلى إيجاد قاعدة نقدية تلقائيا، فإنه يزاحم القطاع الخاص فى الائتمان. ومن ثم تضطر هذه المصارف إلى خفض ائتمانها إلى هذا القطاع وهو ما يطلق عليه أثر «المزاحمة» من خلال زيادات أسعار الفائدة. أما الاقتراض من القطاع العائلي فإنه ينطوي على مخاطر ذات طبيعة خاصة عند الإفراط فى استخدامه،
فهو أيضا يؤدى إلى المزاحمة مع القطاع الخاص ورفع أسعار الفائدة ثم زيادة تكلفة الدين ومن ثم عبء الدين فى المستقبل. من هذا المنطلق يبرز الارتباط الوثيق بين السياستين المالية والنقدية، إذ يتوقف اتساع القاعدة النقدية على زيادات أسعار الفائدة. أما الاقتراض من القطاع العائلي فإنه ينطوي على مخاطر ذات طبيعة خاصة عند الإفراط فى استخدامه،
فهو أيضا يؤدى إلى المزاحمة مع القطاع الخاص ورفع أسعار الفائدة ثم زيادة تكلفة الدين ومن ثم عبء الدين فى المستقبل. من هذا المنطلق يبرز الارتباط الوثيق بين السياستين المالية والنقدية، إذ يتوقف اتساع القاعدة النقدية على ما إذا كان تمويل العجز يأتى من مصادر خارجية أم من مصادر داخلية، أى من خلال الائتمان المصرفي.
إذ ان الزيادة فى عجز الموازنة تؤدى إلى زيادة الحاجة إلى التمويل، فإذا ما تم توفير هذا التمويل للحكومة محليا فإن ذلك ينعكس على الائتمان المقدم للقطاع الخاص. وهكذا تنعكس العلاقة بين السياستين فى نهاية الأمر على صافي الاقتراض الحكومي من الجهاز المصرفي، وهو ما يتوقف على مدى التمويل المقدر الحصول عليه من الجهاز المصرفي لتمويل العجز فى الموازنة. ومدى تأثر النمو فى السيولة المحلية بالاقتراض الحكومي من الجهاز المصرفي ككل. فضلا عن دور الودائع الحكومية لدى المصارف التجارية.
مما سبق يتضح لنا أن مشكلة التضخم ترجع بالأساس إلى أسباب هيكلية فى بنية الاقتصاد، بالإضافة إلى التضخم المستورد، والذى يعد السبب الرئيسي فى الوقت الحالي، وذلك بسبب تراجع الإنتاج وانخفاض إنتاجية العديد من القطاعات السلعية خاصة الزراعة والصناعة وازدياد الطاقات العاطلة، كما أن السبب المباشر للموجة السائدة حاليا هو التخفيضات المستمرة فى قيمة الجنيه المصري نتيجة للاعتماد الأكبر على الاستيراد بالدولار إذ إنه ومع كل انخفاض فى الجنيه يرتفع التضخم، وخير دليل على ذلك الارتفاع من 13.8%عام 2016 إلى 29.5% عام 2017 عقب تحرير سعر الصرف،
وأيضا الارتفاع من 4.2% عام 2003 إلى 16.5% عام 2004 لنفس السبب وهو ما حدث أيضا بين عامي 1985 و1986 حين ارتفع من 12.1% إلى 23.9% بالإضافة إلى سيادة الاحتكارات فى العديد من المنتجات التى تعد سمة أساسية من سمات السوق المصرية خاصة بعد أن امتدت بآثارها لتشمل معظم قطاعات الاقتصاد.
وعلى الجانب الاخر فان عجز الموازنة وما يرتبط به من اللجوء للاقتراض من الأسواق المحلية عبر طرح اذون وسندات على الخزانة العامة يؤدى الى تحفيز أصحاب الثروات على الاستثمار فى هذه الأصول عديمة المخاطر وذات الفائدة المرتفعة. والأخطر من ذلك ان هذه السياسة تؤدى إلى قيام الجهاز المصرفي بالاستثمار في هذه الأوراق على حساب تمويل التنمية. هذا فضلا عن ان ارتفاع أسعار الفائدة على أذون الخزانة يؤدى الى زيادة عبء الدين العام المحلى ومن ثم زيادة عجز الموازنة والتي تلجا بدورها الى طرح المزيد من الأوراق المالية الحكومية وهكذا ندخل في دائرة مفرغة وتفاقم من عجز الموازنة العامة للدولة
فالسياسة المالية ترتبط بالسياسة النقدية من خلال الدور الذي تقوم به السلطات النقدية فى تمويل عجز الموازنة العامة، وعلى هذا تنعكس العلاقة بين السياستين فى النهاية على صافي الاقتراض الحكومي من الجهاز المصرفي. وهو ما يؤثر بدوره على السيولة المحلية والقاعدة النقدية ومعدل التضخم وهي مسألة تظل رهنا بمدى وطبيعة التطور الاقتصادي بالبلاد والأوضاع المصرفية والنقدية، ناهيك عن أوضاع المالية العامة وعجز الموازنة جنبا إلى جنب مع الأطر المؤسسية الناظمة لعمل السوق بما يحقق الانضباط فى الأسعار والسيطرة على التضخم وعلاج الاختلالات العديدة والتى تجعل السوق أقل قدرة على المنافسة أو أقل كفاءة وتزيد من الضغوط التضخمية بالبلاد.
ويشير الفكر الاقتصادي إلى أن مصداقية السياسة النقدية وبالتالي قدرتها على تحقيق استقرار طويل الأجل للأسعار، مع حد أدنى من التكاليف الاقتصادية الحقيقة، يتطلب بالأساس تعزيز السياسة النقدية لتثبيت توقعات التضخم عند المستوى المستهدف وتحسين عمل السياسة النقدية بما فيها سعر الصرف وهو ما يحتاج الى محور ارتكاز أسمى غالبا مايتمثل في معدل التضخم المستهدف.
ويتلخص هذا النظام فى تقدير معدل متوقع للتضخم في ضوء التطورات والتغييرات خلال الاعوام السابقة والمستجدات المحتملة على الساحة المحلية بالإضافة الى الإمكانيات المتاحة لدى السلطة النقدية وحدود أدوات السياسة المتبعة. وهكذا تستطيع السلطة النقدية عبر العديد من الأدوات التأثير لتحقيق معدل تضخم معين.
من هذا المنطلق تأتى أهمية العمل على تدعيم مقدرة البنك المركزي على إدارة الشئون النقدية والتحكم فى السيولة المحلية، عن طريق المحافظة على معدل ملائم لنمو النقود لكي يضمن تحقيق نمو اقتصادي معتدل ويحمى النظام من التوترات الموسمية او غيرها. وهكذا فان التضخم المعتدل يدعم الاستقرار ويجعل الاقتصاد فى حالة توازن حركي منتظم ويزيد من الناتج المحلى. ولكي تنجح هذه السياسة يجب ان تتسم بالاتساق والتصميم الجيد وعلى اعلى قدر ممكن من التنسيق بين مكوناتها.
ولا شك ان وضع الاقتصاد على مسار النمو غير التضخمي يجب ان يعالج الإخفاقات الاساسية بالسوق المصرية ولتي تقوض من هذه الجهود. اذ ان هناك خطأ شائع في المجتمع يرى ان اقتصاد السوق يعنى الحرية المطلقة لأصحاب الاعمال والتجار وغيرهما من اللاعبين الأساسيين في فرض سطوتهم على الأسواق والتحكم في الأسعار، وهو غير صحيح على الاطلاق اذ ان المفهوم الصحيح لاقتصاد السوق يشير ببساطة الى تفاعل قوى العرض والطلب في إطار مؤسسي وقانوني سليم يضمن عمل الأسواق بطريقة صحيحة وهو ما يتطلب وجود إطار مؤسسي قوى ينظم هذه العملية.
وكما ذكرت احدى تقارير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة وبحق ” انه ذا كان هناك انتصارا للرأسمالية فليس هناك ما يستدعى الجشع الشخصي”” وهو ما أكده العالم الاقتصادي الفرنسي ميشيل بو قائلا “بقدر ما تكون السوق الية اقتصادية لا تعوض، بقدر ما يكون اللجوء اليها في كل الأحوال امرا من قبيل الجنون القاتل” اوقد جاءت هذه التصريحات وغيرها بعد اتضاح الآثار السلبية التي نجمت من تطبيق هذا المسار، اى الرأسمالية المنفلتة،
وهو ما تكفل به العديد من الاقتصاديين المرموقين وعلى رأسهم ” ستجليتز” كبير الاقتصاديين بالبنك الدولي سابقا وكذلك ” بول كروجمان” وغيرهما من عتادة الفكر الرأسمالي وذلك حين اصطدموا بالنتائج السلبية التي برزت من خلال السير فى هذا النهج خاصة فيما يتعلق بالنمو غير المتوازن وعدم المساواة مع تزايد حدة الفقر وارتفاع التضخم او على الاقل عدم القدرة على التصدي لهذه المشكلات.
وهنا أيضا نلحظ ان نتائج النموذج المطبق حاليا في مصر، والذي طبق بالكامل فى معظم البلدان قد باء بالفشل الذريع أيضا نتيجة للآثار الاجتماعية الكارثية التي انتهى إليها، الأمر الذي أدى لبروز العديد من التيارات الفكرية المناهضة لهذا النموذج وأصبحت تبحث عن نموذج اقتصادي أخر في مواجهة المشروع الليبرالي على الغرار الأمريكي.
من هذا المنطلق فقد حرصت كافة البلدان التي قامت بعمليات تحول في مسارها الاقتصادي، على تلافى هذه الاثار والعمل على اصلاح المناخ الاستثماري ونقصد به مجموعة الظروف والعوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية التي تؤثر فى القرار الاستثماري مما يساعد على خفض معدل التضخم، وتدعيم المؤسسات التي تضمن عدم تفاقم الضغوط التضخمية الناجمة عن هذه العملية وقامت السلطات المعنية بوضع العديد من الضوابط التي تحول دون تفاقم التضخم. وإزالة المعوقات القائمة التي تعوق قدرة بعض المؤسسات على الاضطلاع بمهامها.
كل هذه الأمور وغيرها تمكن الاستثمار الجاد من التفاعل مع آليات السوق والمنافسة فى ظل مناخ يتسم بالشفافية، وبالمزج بين المساندة والرقابة الفعالة من مؤسسات الدولة.
من هذا المنطلق فان مواجهة مشكلات التضخم والبطالة والفقر وغيرهم، تحتاج الى ارادة سياسية عن طريق تفعيل دور الدولة لتعويض اوجه النقص فى عمل نظام. السوق. وهو ما يتطلب بالضرورة إطار قانونى سليم يضمن وجود حزمة من القوانين المدنية والتجارية الواضحة والمعلن عنها بالقدر الكافي مع إنفاذ القواعد القانونية والتنظيمية ووجود جهاز قضائي مستقل وتعزيز النظام الضريبي والإدارة الضريبية وزيادة الشفافية وتفعيل إجراءات المحاسبة المالية وتطوير الجهاز الإداري للدولة مع تفعيل المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية وضمان حماية المستهلك،
ورغم أن هذه الإجراءات وغيرها قد تستغرق بعض الوقت إلا إنها تعتبر ضرورة قصوى لضمان انضباط الأسواق ومحاربة التضخم وهى أحدى الاليات الجوهرية لحماية حقوق كافة الأطراف في المجتمع، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال وجود رقابة فعالة على الأسواق. مع التأكيد على ضرورة ألا ننظر إلى الرقابة على الأسواق على أنها تدخلاً في عمل الأسواق بالمعنى الذي يفقدها حرية المبادرة والتكييف مع المعطيات الاقتصادية المحيطة بها، وإنما الرقابة هدفها مواجهة الأفعال والتصرفات الضارة بالسوق ذاته والماسة بقدرة العاملين فيه على اتخاذ قرارتهم الاقتصادية على ضوء الاعتبارات التجارية وحدها وكذلك لمواجهة الآثار السلبية الناشئة عن أفعال تهدف إلى الأضرار بالمستهلك وبالوحدات العاملة بالسوق.
ولا يمكن إنكار أن المستهلك في مصر يمثل أضعف حلقات التعامل، وأن هناك ضرورة لحمايته، وأساس ذلك أن المستهلك يمثل محور العملية الاقتصادية بالنظر إلى قيام اقتصاد السوق على مبدأ أساسي فحواه هو أن تخصيص الموارد بين أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة تتم في التحليل الأخير وفقاً لرغبات المستهلك.
وبالتالي، فإن حماية المستهلك وتنظيم المنافسة من أهم أهداف الرقابة على الأسواق، ويمكن النظر إلى كل منهما على أنهما يهدفان، في التحليل الأخير، إلى تحقيق ذات الأهداف ومن خلال وسائل متشابهة.
ومن هنا أتت أهمية النظرة المشتركة لهما ضمن فعاليات الرقابة على الأسواق. لذلك يجب العمل على ضبط إيقاع السوق وتفعيل الدور الرقابي الرسمي والشعبي من أجل حماية المواطن من أية أضرار قد يتعرض لها كنتيجة لتسلل بعض السلع والمنتجات غير معلومة المصدر أو غير المتوافقة مع المواصفات القياسية الدولية.
وكلها أمور لن تتأتى الا عبر تنظيم السوق وضمان كفاءة آلية العرض والطلب بما يعنيه ذلك من توفير الظروف التي تجعل تفاعل العرض والطلب يتم فى إطار تنافسي حقيقي بعيد عن الاحتكارات. وكذلك توفير المناخ الاستثماري الجيد عن طريق إصلاح التشريعات القانونية والإدارية. ووضع القوانين موضع التنفيذ. وهذا يعنى ببساطة إيجاد بيئة تنافسية تدفع للمزيد من الكفاءة فى الإنتاج مع ضمان عدالة التوزيع لثمار النمو.
مما سبق يتضح لنا أن علاج التضخم والحد من ارتفاع الاسعار يتطلب اتخاذ حزمة متكاملة من الاجراءات والسياسات تعمل علي رفع الطاقة الاستثمارية ورفع معدلات استخدام الطاقة العاطلة وأصلاح الهياكل التنظيمية والمؤسسية للاقتصاد المصري، ذلك لان سياسات إدارة الطلب هي بطبيعتها سياسات قصيرة الآجل، ويكون نجاحها على حساب مستويات التشغيل والإنتاج،
في حين أن الهدف النهائي من العملية الإنتاجية هو رفع معدل النمو، لكي ينعكس على مستويات معيشة ورفاهية الأفراد. كما يتطلب إصلاح نظام السوق لا يجاد مناخ ثقافي، وتوحيد قواعد اللعبة والحد من الاحتكارات وتشجيع المنافسة.
وكما ذكر وبحق المفكر الاقتصادي المصري د. رمزي زكي إذا كان التضخم قد بات من الأمراض الاقتصادية والاجتماعية المتوطنة بالبلاد فما احرانا ان نكافحه بكل الطرق وبكافة الأسلحة الفعالة من اجل الا نجعله مرضا متوطنا في مصرنا العزيزة