عبد الفتـــــاح الجبــــالـى :
الدعم النقدى ضرورة .. ولكن! «2»
استكمالا لما تناولناه فى المقال السابق، والذى أكدنا فيه أن إصلاح سياسة الدعم الحالية يجب أن يستهدف الوصول إلى الفقراء ومحدودى الدخل ومنع غيرهم من الحصول عليه، وليس علاج عجز الموازنة كما يتصور البعض.
من هذا المنطلق يفضل البعض الدعم النقدى بإعتباره يضمن وصول الدعم إلى مستحقيه، ويرى هؤلاء انه لو استفاد الفقراء من الأموال الموجهة للدعم على الوجه الأكمل لانخفض الفقر بمعدل يفوق أثر زيادة معدل نمو الناتج بنسبة كبيرة. واختفاء السوق السوداء للسلع وترشيد الإستهلاك مع ضمان عمل الأسواق بصورة سليمة.
وضمان وصول الدعم إلى مستحقيه دون تسريب، وإعطاء المواطن الحرية فى اختيار السلع المناسبة وفقا لترتيب أولوياته، كما انه يؤدى إلى تقليل الهدر فى استيراد القمح مما يخفف من العبء على الدولة.
وقبل أن نحاول معرفة مدى صحة هذه الاطروحات تجدر الإشارة إلى أن هذا النوع من الدعم لا يصلح إلا فى حالة السلع التموينية ورغيف الخبز، أما الأنواع الأخرى للدعم مثل دعم الأدوية وألبان الأطفال ودعم نقل الركاب ودعم التأمين الصحى ودعم المزارعين وتنمية الصعيد فضلا عن الدعم غير المباشر والذى يرتبط بالعلاقة بين الخزانة العامة والشركات والهيئات الإقتصادية والعلاقات التشابكية فيما بينهما مثل الكهرباء والبترول، أو الكيانات التى تقدم خدمات مدعومة، بأقل من تكلفة إنتاجها مما يؤثر على نتائج الأعمال ويقلل العوائد المحولة للخزانة العامة والتى تتحمل بخسائرها ما يرهقها، وكلها لا يصلح لها الدعم النقدي.
مع ملاحظة أن دعم الخبز والسلع التموينية قد وصل إلى 133.3 مليار جنيه فى ختامى مبدئى عام 2023 منها 97.1 مليار لدعم رغيف الخبز لنحو 69.5 مليون مواطن و36.2 مليار جنيه لدعم بطاقات التموين لنحو 61.4 مليون فرد.
ورغم ثبات المبلغ المنصرف للبطاقة بخمسين جنيها للفرد الواحد لعدد أربعة أفراد شهريا ومازاد على ذلك يحصل على 25 جنيها، منذ موازنة 2018 إلا أن أسعار السلع التموينية فى زيادة مستمرة منذ ذلك التاريخ حيث ارتفع السكر التموينى من 8.5 جنيه للكيلو عام 2021 إلى 12.6 جنيه عام 2024 وبالمثل الزيت التموينى ارتفع من 20 جنيها للتر إلى 30 جنيها خلال نفس الفترة، الأمر الذى يشير إلى تناقص الكميات المخصصة للبطاقات التموينية.
تأتى أهمية هذه المسألة فى ضوء ما أشار اليه تقرير البنك الدولى عن مراجعة الإنفاق العام 2022 إلى أن دعم السلع الغذائية الأعلى تأثيرا فى الحد من الفقر، وهو ما ذهب إليه بحث الدخل والإنفاق عن العام 2020/2019 إلى أن دعم الغذاء قد أسهم بخفض نسبة الفقر بنحو 3% ولو أخذنا بالحسبان التطورات التى حدثت بعد هذا التاريخ والتى أثرت بشدة على أوضاع الفقراء لزادت هذه النسبة بصورة كبيرة.
خاصة مع ارتفاع معدل انتشار نقص الغذاء، كما أن سوء التغذية كان هو السبب الرئيسى فى وفيات ثلثى الأطفال ناهيك عن ارتفاع معدلات نحافة الأطفال ونقص الوزن والتقزم، نتيجة لوقوع هؤلاء فى مصيدة الفقر فمع محدودية الإمكانية فى الإستفادة من الخدمات الإجتماعية الأساسية وعدم القدرة على الوصول إلى الغذاء الصحى والتعليم الجيد.
ولكن مشكلة الدعم النقدى الأساسية تكمن فى كيفية تحديد الفئات المستحقة للدعم والمعايير التى يمكن استخدامه فى سبيل تحقيق ذلك. مع ملاحظة أن 42.4% من الفقراء يعملون بقطاع الخدمات ونحو 30% فى الزراعة و16% فى قطاع التشييد والبناء و12% فى الصناعة وهى فئات معظمها لم تتمكن من الإستفادة من شبكات الضمان الإجتماعى الحالى بما يجعلها أكثر هشاشة وعرضة للمزيد من الإفقار.
وهنا يرى البعض أن أفضل هذه السبل هى إستخدام قيمة الإنفاق على الكهرباء كمؤشر لمستوى إنفاق الأسرة، ولكن هذا المؤشر عيوبه كثيرة منها أن الأسر الأكثر فقرا قد لا ترتبط بشبكة الكهرباء العامة بالبلاد كما هى الحال فى العشوائيات حاليا، كما أن هذا المؤشر لا يعكس الإستهلاك الحقيقى للأسر التى لديها أكثر من مسكن، ناهيك عن انه لا يأخذ بعين الإعتبار أثر حجم الأسرة على قيمة الإنفاق على الكهرباء.
بينما يفضل البعض الآخر اللجوء إلى معايير الأسر التى تحصل على الضمان الإجتماعى ومعاش تكافل وكرامة أو أى نوع آخر من أنواع المساعدات الإجتماعية التى تقدمها الدولة، وهذا أيضا معيار مضلل لأسباب عديدة منها أن هناك شرائح كبيرة فى المجتمع لا تدخل ضمن كافة هذه النظم، وهكذا فإن صعوبة تحديد الفئات المستحقة سيقف حجر عثرة أمام محاولة تطبيق الدعم النقدي.
والمشكلة الثانية والأهم تكمن فى كيفية الوصول إلى المستحقين للدعم،فى ظل الأوضاع السائدة بالمجتمع المصري. فضلا عن أن ذلك يتطلب بالضرورة إنشاء جهاز جديد لمتابعة هذه الحالات، أو على الأقل تطوير وزارة التضامن الإجتماعى لجعلها قادرة على التصدى لهذه المسالة مع مايعنيه ذلك من أعباء إدارية جديدة وشديدة التعقيد والحساسية.
أما المشكلة الثالثة فهى تكمن فى كيفية تحديد المبلغ المستحق لكل أسرة، بمعنى آخر ما هو مقدار المبلغ الذى سيصرف لهم ووفقا لأى أسس واعتبارات؟ وهل سيظل هذا المبلغ ثابتا على مدار سنوات معينة أم انه سيتحرك سنويا وفقا لمعدلات الإرتفاع فى الأسعار؟ وهو ما يتطلب بالضرورة العمل على تعديل الرقم القياسى لأسعار المستهلكين وتصحيح الأخطاء التى تشوبه حتى يصبح أكثر قدرة على التعبير عن الواقع الفعلى المعاش.
ناهيك عن الآثار الأخرى المتوقعة لهذا النظام مثل التضخم الجامح المتوقع جراء هذه السياسة، ليس فقط كنتيجة لذهاب الأموال إلى أفراد يرتفع لديهم الميل للاستهلاك، ولكن أيضا لطبيعة التشابكات السعرية فى المجتمع الأمر الذى سيؤدى إلى المزيد من الإرتفاعات فى الأسعار بالمجتمع ككل ولن يقتصر على السلع المدعمة وحدها، وبالتالى زيادة مبالغ الدعم وليس العكس. خاصة فى ظل الأوضاع السائدة بالأسواق وسيطرة الإحتكارات عليها.
لكل هذه الأسباب وغيرها يصبح من الضرورى العمل على تهيئة البيئة الإقتصادية والإجتماعية، وإصلاح الأسواق، قبل التفكير فى التحول إلى الدعم النقدى وإعطاء الأولوية لإبطاء معدل التضخم وتوفير شبكة أمان إجتماعى موجهة بدقة لحماية الأسر الفقيرة والأكثر ضعفا.