الإعتبارات الإجتماعية وبرامج الصندوق
عبد الفتــــــــــاح الجبــــــالـى
«نحن جزء من اقتصاد العالم، وهناك ركود اقتصادى محتمل فى السنوات المقبلة وتحديات كثيرة، فإذا كان التحدى يجعلنا نضغط على الرأى العام بشكل لا يتحمله الناس فلابد من مراجعة الموقف مع الصندوق» .
جاءت هذه التصريحات على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى فى افتتاح المؤتمرالعالمى للصحة والسكان والتنمية البشرية، وتأتى أهميتها فى كونها تعيد الإعتبار للإنسان مرة أخرى باعتباره محور التنمية وأداتها فى الوقت نفسه.
ولذلك أضحى النمو الإقتصادى ليس مهما فى حد ذاته ما لم يكن مصحوبا بتنمية حقيقية لقدرات البشر تنعكس فى النهاية فى مستوى معيشة لائق وحياة مديدة خالية من الأمراض. وبالتالى فإن التساؤل يصبح عن مدى التكلفة المجتمعية التى تحمّلها المجتمع المصرى نتيجة لتطبيق برنامج الصندوق؟
والأهم من ذلك، مدى إمكانية استمرار هذه السياسة من عدمه؟ وما مدى تأثرها بالمتغيّرات والتطوّرات الجارية السائدة على الساحة الدولية والإقليمية؟ والأهم من هذا وذاك، ما هى النتائج المترتبة على أوضاع الإقتصاد المصرى عموماً؟
وعلى كل من النمو والبطالة وتوزيع الدخل على وجه الخصوص؟ ثم هل هذه النتائج قادرة على التحسّن مع استمرار التكلفة المجتمعية لها؟ وهل ستؤدى هذه السياسة إلى زيادة الإنتاجية والتنافسية فى المجتمع؟ لاشك أن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها تتطلب بالأساس تقييم الأداء التنموى لهذه السياسة مع التركيز على المحاور الأساسية، مثل النمو فى القطاعات السلعية وسياسات الإدخار والإستثمار والتوظيف، فضلاً عن سياسات التعامل مع العالم الخارجي. ومدى استقرار الأسعار والتضخم،
وأخيراً مدى العدالة فى توزيع الدخول بالمجتمع. وتكمن المشكلة فى كون الصندوق يضع برامج محددة للدول بغض النظر عن الإعتبارات الإجتماعية والإقتصادية،
فمن المعروف أن استخدام موارد الصندوق يتطلب بالأساس التوصّل لإتفاق تُعلن فيه الدولة المعنيّة مُجمل السياسات الإقتصادية التى ستتبعها خلال فترة معيّنة، وتتم مراقبة ذلك بشكل دورى مستمر، بحيث توضع أهداف محدّدة سنوية وربع سنوية أو يتم بناءً عليها مراجعة ما تم منها فى ضوء الأهداف المطروحة.
إذ يتخذ برنامج التثبيت الإقتصادى شكل مجموعة من النوايا التى تتعهّد بها الدولة والتى يُرى أنها تستمد الدعم المالي. وهذا لا ينفى بالطبع وجود تعدّد وتنوّع فى أدوات السياسة المستخدمة فى البلد المعنى، حسب ظروف وطبيعة كل دولة، ولكنها جميعاً تنبع من أساس فكرى واحد، يُطلق عليه «مدرسة واشنطن».
وهنا تجدر الإشارة إلى أن التركيز الأساسى لهذه البرامج يهدف إلى ضمان تحقيق أغراض صندوق النقد بالأساس والواردة بالمادة الأولى وتشمل «تسهيل التوسّع فى التجارة الدولية وتعزيز استقرار الصرف وإزالة القيود على الصرف، بما يسمح خلال فترة زمنية معقولة، بحدوث وضع سليم فى ميزان المدفوعات، يسمح بسداد الموارد المقدمة من الصندوق فى مواعيدها المقرّرة،
ومن المنظور الأكثر اتساعاً يهتم الصندوق بحدوث تحسّن مضطرد فى أوضاع مديونية الدولة العضو وبالتالى ينصب الاهتمام على تحسين استخدام الموارد بشكل كفء من أجل توليد حصيلة كافية من النقد الأجنبى للوفاء بجميع التزامات المدفوعات فى المستقبل»،
وهكذا يتضّح أن الهدف الذى يطرحه صندوق النقد، يختلف كثيرا عن الأهداف الإقتصادية للدول، وذلك على الرغم من الإتفاق التام على طبيعة المشكلة الإقتصادية والتى تكمُن فى الإختلال الحاد فى التوازن «الإقتصادى العام» فى المجتمع، سواء كان ذلك فى صورة اختلال التوازن «الإقتصادى الداخلى» وهو ما يبرز فى العجز المزمن للموازنة العامة للدولة، أو اختلال التوازن «الإقتصادى الخارجى» وهو ما يظهر فى عجز ميزان المدفوعات.
ولكنه يتجاهل أنه لا توجد إستراتيجية واحدة تصلح لجميع البلدان، بغض النظر عن ظروف كل دولة. ومن هنا تختلف الأدوات والوسائل المُقترحة لتحقيق هذا الهدف.
ولما كان لكل وسيلة من الوسائل أعباء اجتماعية معيّنة تقع على كاهل قطاعات وشرائح بذاتها، فإن العبء الأكبر من برامج الصندوق يقع على الطبقات الإجتماعية الصغيرة والمتوسطة. فجميع الجهود المبذولة تركز فى معظمها على جانب المصروفات دون الإيرادات خاصة الأجور والدعم، رغم أن هناك جوانب عديدة فى الإيرادات يمكن التعامل معها.
وهنا نلحظ أن حصيلة هذه الإجراءات الإنكماشية لم تكن فعالة فى الحفاظ على معدلات نمو عالية للإنتاج، أو فى زيادة الصادرات السلعية، إضافة إلى أنها لم تؤد إلى الحفاظ على الإستخدام المناسب للقوى العاملة. فضلاً عن كونها لم تُفلح فى تغيير الهيكل الإقتصادى وتنويع مصادر الدخل والإنتاج وهكذا فإن هذه السياسات، وإن تساعد عادة فى التقليل من حِدّة الإختلالات على المدى القصير، إلا أنها تعمّق من مشاكل النمو الإقتصادى على المدى البعيد.
كما أن فاعلية هذه السياسات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأُطُر المؤسسية والإدارية والقانونية والسياسية والإقتصادية، وبملاءمة الظروف الإجتماعية العامة، أكثر مما ترتبط بالحاجة إلى منطقية التسبب الإقتصادى المجرد والعام.
كما تعانى هذه البرامج التركيز الضيّق على العقبات السعرية أمام المنافسة، بينما لا تعالج العقبات المؤسسية التى من شأنها استمرار أخطاء نظام السوق. وبذلك تتحول الأسواق من احتكار الدولة إلى احتكار القلة نتيجة لطبيعة الأسواق ذاتها.
وقد بدأ بالفعل إعادة النظر فى هذه السياسة، وظهر العديد من الدراسات التى حذرت منها لأنها غير مجدية ولها تأثير سلبى على النمو وتوزيع الدخل وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وهناك العديد من الدراسات التى أكدت ذلك، بل إن صندوق النقد الدولى ذاته تراجع عن هذه المسألة حيث نشر دراسة بعنوان «الليبرالية الجديدة هل شابها الإفراط؟»، انتقدت الأعمدة الأساسية التى تقوم عليها جميع برامحه الإصلاحية فيما يتعلق بالسياسة المالية، حيث ترى أن سياسة التقشف التى يدعو إليها عن طريق تخفيض النفقات العامة، خاصة على بعض الجوانب الإجتماعية كالأجور والدعم، قد أدت فى النهاية إلى المزيد من عدم المساواة وسوء توزيع الدخول،
بل وأقر بأن هناك إفراطا شديدا فى تخفيض الموازنات مما أدى إلى نتائج عكسية أضرت بأهداف النمو والعدالة الإجتماعية وحتى استمرارية السياسة المالية ذاتها. لكل ما سبق أصبح من الضرورى إعادة النظر فى هذه السياسة بكاملها ويجب بناء السياسة الإقتصادية على أساس المشاركة بين المجتمع والحكومة تبنى على أساس الثقة المتبادلة والإعتماد على الفهم الديناميكى للحكم على المتغيرات وينبغى أن توجه سياسات الإصلاح إلى تحقيق هدف التنمية الاحتوائية الشاملة على الأجل الطويل.