السيرة الذاتية مخبوءة في الصدور ( 1 )
رحل “نجيب محفوظ” قبل أن يكتب مذكراته !!
بقلم : حمدى رزق
علي هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب ، ذهبت باحثا عن جديد المذكرات والسير الذاتية مدفوعا بأصداء السيرة الذاتية لأديب نوبل ، طيب الذكر ” نجيب محفوظ “.
ولأني عاشق صبابة للمذكرات والسير الذاتية منذ طالعت سيرة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام ، السيرة النبوية لابن هشام ، في كتاب من قبل عبد الملك بن هشام ، بحثت عما يروي غلتي لسيرة حقيقية لإنسان حقيقي يروي ما تيسر من سيرته الذاتية دون كذب أو تجمل ، دون خجل أو وجل ، سيرة عادية لا تتخفي وراء كنايات لغوية ، سيرة شفافة فيها ما فيها من توفيق وإخفاق ، وحب وكراهية ، ووفاء وخيانات ، سيرة بشرية ، والقاعدة النبوية الشريفة تقول :” كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ” .
عدت بخفي حنين ، لجأت إلي مكتبتي المتواضعة أراجع ما تحويه من سير ومذكرات صدرت وكانت ملهمة يقينا .. وهذه هوامش شحيحة علي متون بعضها ..
**
في الأوراق المحفوظة، الصور، والرسائل، يستنطقون الذاكرة، يترددون على مرافئ الذكرى، يطول مكوثهم أو يقصر، فعندما يطول العمر بالإنسان، يشعر أن الزمن المتبقى أمامه قليل، وانه يقترب من النهاية، ويريد أن يقول كلماته الأخيرة، يصدر لنا سيرته الذاتية، وما أدراك ما سيرته الذاتية، السير الذاتية العربية، لاترضى أحدا، بل لا ترضى حتى صاحبها، حين يرى سيرته الذاتية مشنوقة على أعمدة الرفض الأسرى والقبلى والاجتماعى، السير الذاتية العربية – أبدا –ليست مسك الختام.
كتب أديب نوبل “نجيب محفوظ” في كل شيء، لكنه رفض كتابة سيرته الذاتية معتبرا أن حياته ليس بها ما يُثار ولكنه وزعها على شخوص أعماله وتطرق إليها بشكل أعمق فى كتابه “أصداء السيرة الذاتية”، بينما كان الأديب الراحل “يوسف السباعي” يرى أن القارىء حتما سيعلم سيرة الكاتب سواء في حياته أو بعد موته، ولذلك فضل أن يكتبها بقلمه في الكثير من قصصه، بدلا من أن يكتبها غيره.
لا يوجد عمل أدبي إلا ويحمل بذرة ولو صغيرة جداً من كاتبه؛ أحلامه، هواجسه، آلامه، وانكساراته، لكن تظل كتابة “السيرة الذاتية” تطرح العديد من التساؤلات، فما الذي يدعو الكاتب للتعري أمام الآخرين، وما مدى الصدق في كشف السيرة الحقيقية، وإذا ما كان صادقا فهل تهتز صورة الكاتب الذي يفضح أخطائه وسلبياته أمام القراء؟
بالطبع ثقافة المجتمع لها دور كبير، والصراحة الكاملة غير موجودة على الإطلاق، وهي نسبية تخضع للظروف السياسية والأوضاع الاجتماعية التي يعيشها الكاتب، فكثير من السير التي كتبها العرب كانت نمطية تقليدية، تميل لتصويرهم في صورة الإنسان المكافح صاحب المبادئ الذي دوما يتخذ القرارات الصحيحة، لذا ليس هناك سيرة بالمعنى الحقيقي بجميع مراحلها بفشلها ونجاحها والتي تحتاج إلى قدر كبير جدا من الصراحة..
ولكن هل نقدر قيمة الصدق في مجتمعاتنا، ف”سهيل إدريس” مؤلف رواية “الحي اللاتيني” كتب سيرته بصدق وجرأة تامة لكن القراء لم يستسيغوا أو يتقبلوا جرأتها..!
في الغرب الوضع يختلف، فنقرأ بمذكرات “أينشتاين” أنه كان من أسوأ التلاميذ بالفصل، وعندما كتب “جان جاك روسو” مذكراته قال “أنا افعل شيئا لم يفعله شخص قبلي، ولن يقدر شخص على تقليده بعدي” بسبب الجرأة الشديدة التي كتب بها مذكراته، كما تألقت مذكرات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق “ونستون تشرشل” والتي نال عنها وحدها جائزة نوبل، وجان جينييه وغيرهم.
السيرة الذاتية لها سحر آسر لكاتبها وقارئها معا، كما يقول “عبد الرحمن منيف” في كتابه “رحلة ضوء”، إذ بالإضافة للخصوصية فهي في أغلب الأحيان منطلقة، حرة ،سلسة، وفيها كم غير قليل من التفاصيل الحارة وفي بعض الأحيان الساخنة باعتبارها اعترافا قبل كل شيء، ولأنها استعادة لحياة كانت ذات يوم بكل ما حفلت به من متع وخيبات وجروح وما مازجها من رغبات وأحلام.
وكان الأدب العربي عرف كتابة السيرة الذاتية منذ القدم، لكنها كانت تقتصر على التراجم، وأشهرها كتابة السيرة النبوية الشريفة، أما السيرة بشكلها الحالي فقد ظهرت منذ نحو مائتي عام فقط مع نشأة الرواية في العالم، ويذكر المؤرخ “فيليب حتى” إن “كتاب الاعتبار” من أوائل كتب المذكرات التي كتبت باللغة العربية، عندما ألفه قبل ألف سنة، “أسامة بن منقذ” المولود في بلاد الشام، والذي شهد الحروب الصليبية، وجمع خلال نفس الفترة، “ابن جبير” المولود في الأندلس، بين الرحلات والمذكرات، وسار على طريقه بعد مائة سنة، ابن بطوطة” المولود في المغرب الذي كتب يوميات الرحلات التي قام بها حول العالم.
ولعل أبرز من كتب السيرة في الأدب العربي، طه حسين في “الأيام”، أحمد أمين “حياتي”، توفيق الحكيم “زهرة العمر”، المازني “قصة حياة”، و”البئر الأولى” و”شارع الأميرات” لجبرا إبراهيم جبرا، “أوراق العمر” للويس عوض، “أوراقي .. حياتي” لنوال السعداوي، “حملة تفتيش.. أوراق شخصية” للطيفة الزيات، “رحلة جبلية – رحلة صعبة” و”الرحلة الأصعب” لفدوى طوقان، وغيرهم.
أما الغرب فلم يعرف ولادة السيرة الذاتية، بالمعنى الذي نفهمه اليوم، قبل نهاية القرن الثامن عشر وصدور اعترافات “جان جاك روسو” ، وإن كان البعض يحب اعتبار اعترافات “القديس أوغسطين ” (354 ـ 430) أقدم سيرة ذاتية باقية لنا اليوم.
**
لا يزال طيب الذكر الدكتور “جابر عصفور” يذكر حبه الأول، والذي قرر الكشف عنه في سيرته الذاتية الصادرة بعنوان “زمن جميل مضى”، ورغم أن المؤلف لا يتذكر الكثير عن بدايات حياته التي تبدو له بعيدة جدا بعد أن تجاوز السابعة والستين من عمره، لكنه يسرد ذكريات عديدة عن عائلته الصغيرة،
يشير د. عصفور في كتابه الذي ينقسم إلى خمسة أجزاء هي “النشأة، فتنة القاهرة، ذكريات تلمذة، سكندريات، ذكريات ناصرية”، إلى كثرة ما كتبه عن شعوره بالافتقاد للأمان وهي خصلة نفسية ظلت تنضج بداخله ربما دون أن ينتبه.
يبقى لزمن الستينيات سحره في ذاكرة عصفور، لأنه يرتبط بزهرة العمر من سنوات الشباب الممتلئة بالوعود والأحلام الفردية وسنوات التكوين الحاسمة، وكذلك ارتباطه بصحوة المشروع القومي، هذه السنوات جمعت الأحلام الفردية والقومية، وجعلت من الأحلام الفردية وجها آخر من الأحلام القومية.
لم يكن مستقبل عصفور قد تحدد تماما عندما عرض فيلم “الخطايا” الذي غنى فيه عبد الحليم “الناجح يرفع إيده”، وكان حلم التفوق لكي يصبح معيدا في كلية الآداب لم يفارقه، ولذلك كان يتخيل نفسه الأول على كل أقسام اللغة العربية بالجامعات المصرية، ويتخيل نفسه تلميذا لطه حسين وجالسا على كرسيه في قسم اللغة العربية، ولم يكن مهما أن يحب فتاة في جمال نادية لطفي – هكذا همس لنفسه – تبريرا لخيبته مع البنات التي كان سببها خجله الشديد، وخوفه من خوض تجارب تبعده عن
الحلم.
“كنت أحلم أن تلحظني ذات يوم فتاة في جمال مريم فخر الدين أو فاتن حمامة أو نادية لطفي، وتأخذ بيدي مؤمنة بعبقريتي طبعا، ونمضي معا إلى طريق النجاح، ونغني لأنفسنا في النهاية “الناجح يرفع إيده”. لكن