وعاد جيش صلاح الدين الأيوبي
الدكتورة : خديجة حمودة
عندما يهاجم الوحي والإلهام المبدع والشاعر تنطلق الكلمات وتصطف وكأنها قطعة فنية من اللؤلؤ تبحث عن إحدى الجميلات لترتديها ويشاهدها العالم ليقف الجميع أمامها يتساءلون عن صاحب هذا الإبداع ولمن صنعه ومن الذي أخرجه للوجود.
ومنذ ساعات رأيت تلك الحشود المبهجة المنسقة في مشهد لم يُعد له ولم يحركه مخرج سينمائي عالمي، وبالطبع لم يصوره جيش من المصورين الذين يضعون كاميراتهم على الطريق في زوايا مختلفة لتسجل جميع الاتجاهات والنقلات، أخرجه للوجود حب الوطن والإصرار على الحفاظ على الكرامة والأرض والعرض والتاريخ واستعدت لتصويره والاحتفاظ به ذاكرة الشعوب، حشود في طريقها للعودة إلى منازلها سيرا على الأقدام لأيام وليالٍ،
تعود إلى الجدران المدمرة والأبواب المحترقة والنوافذ التي تهالكت من شدة النيران وقسوتها والأثاث الذي تعطر برائحة دماء الشهداء، تعود لتعيش على الأنقاض وتعيد البناء من جديد، رأيت ثلاثة أجيال تسير على الأقدام في شارع صلاح الدين وشارع الرشيد وكأن ذلك الطريق يرحب بهم ويهلل ويشجع ويصفق للعودة، فالابن يحمل الحفيد على كتفيه ويمسك بيده الأب، والزوجة تحتضن الرضيع والأم العجوز تسير إلى جوارها،
المشهد الأسطوري أرعب الإسرائيليين فشعروا بمعنى الهزيمة وبدأت أصواتهم تعلو في احتجاجات عنيفة يتساءلون عن معالم الانتصار الذي وعدوهم به، ويبحثون عن أسراهم، فلأول مرة وأول مواجهة يتجرعون فيها قسوة الفقد لأحبتهم وهم أحياء، هذا المشهد أنعش قلوب العرب وأكد لهم أنّ الحياة لن تتوقف وأنّ الأرض باقية لأصحابها.
رسم العائدون بأجسادهم صورة رائعة وبأصواتهم التي تكبر تكبيرات العيد، أجمل أغنية وطنية خرجت كلماتها من القلوب لتصل إلى السماء ولحنها سيردده الجميع دون توقف، وفي هذه الصورة البشرية كانت الأعلام ترفرف وتتصدرها وجوه الصغار يمسكون بالدفوف ويقرعون الطبول بأغانيهم لفلسطين وغزة وبيت المقدس والابتسامات لا تفارقهم رغم أنهم يعلمون إلى أين يعودون وأن ذكرياتهم دُفنت تحت الأنقاض،
وأن هناك الكثير من العمل والبناء ينتظرهم لتعود إليهم منازلهم وحجراتهم ومدارسهم وكتبهم وخرائط الوطن وتاريخه بمعاركه وأبطاله وجنوده وهؤلاء الفدائيين الذين سجلوا التاريخ بدمائهم وبطولاتهم، فهم أول من يشعرون أن أمامهم رحلة طويلة من البحث والتنقيب عن بقايا ألعابهم وصور الأصدقاء والأهل الذين صعدوا إلى السماء.
عاد جيش صلاح الدين إلى غزة، وشهد على تلك العودة المدهشة البحر المتوسط بأمواجه التي راق لها المشهد وأنعشها فتهادت في حركات راقصة هادئة وتغلب لونها الفيروزي على أي لون آخر فقد نسيت الأمواج تماما القوة والعنف التي كانت تسيطر عليها منذ أسابيع قليلة، فرسمت صفحة جميلة ناعمة رومانسية وسط ذلك الحدث المهيب، وتركت قسوتها عندما كانت تصل إلى الخيام وتغرقها جانبا وكأنها تبارك العودة الآن وتساعدهم وتحثهم على الإسراع، تقمص العائدون مشهد دخول صلاح الدين الأيوبي إلى بيت المقدس بكل شجاعة وفخر، فهتفوا وهللوا وكبّروا وكأنهم يطوفون بالكعبة.
وفي عيون الشعراء ظهر القائد صلاح الدين الأيوبي يمتطى حصانه الأشهب العربي سليل النسب الذي اختاره من بين جميع السلالات ليكون رمزا لعزة وشموخ العائدين، قاد الفارس جيشه وتمكن في النهاية من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس في معركة حطين حملة العودة لغزة كما سبق وقاد عدة حملات، وخاض المعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي استولى عليها الصليبيون في أواخر القرن الحادي عشر،
وعادت ذاكرة الشعراء إلى تلك الأيام التي ارتفع فيها علم المسلمين وهم خلف قائد اشتهر بتسامحه ومعاملته الإنسانية لأعدائه، فأصبح من أكثر الأشخاص تقديرا واحتراما في العالمين الشرقي الإسلامي والأوروبي المسيحي، حيث كتب المؤرخون الصليبيون عن بسالته في عدد من المواقف أبرزها عند حصاره لقلعة الكرك في مؤاب.
وكنتيجة لذلك حظي صلاح الدين باحترام خصومه لاسيما ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وبدلا من أن يتحول إلى شخص مكروه في أوروبا الغربية استحال رمزا من رموز الفروسية والشجاعة وورد ذكره في عدد من القصص والأشعار الإنجليزية والفرنسية العائدة لتلك الحقبة.. فهيا بنا نسجل من جديد عودة جيش صلاح الدين الأيوبي.