السيرة الذاتية مخبوءة في الصدور ( 2 )
” خواء العالم من حولي زادني وحشة ”
بقلم : حمدى رزق
السيرة الذاتية، بعدما قام بمحاولتين كتب فيهما روايتين كاملتين لكنه لم يرض عنهما، فتحولت إلى كتابة السيرة الذاتية التي أخذ ذهنه ينشغل بها واستحوذت عليه.
لكن ربما السبب الأهم هو ذلك القهر الذى عانى منه طوال حياته، قهر فى الأسرة وفى المدرسة فى الكلية، وفى مهنة الطب، قهر المجتمع بقيمه، “الدولة لم تكف عن مطاردتى طوال مراحل حياتى وفى كل المجالات. لم استطع أن اعبر عن نفسى، أن افرد جناحي للريح وأطير، فأردت أن أصيح بملء صوتي، أن أقول أنا هنا”.
**
بدأ د. جلال أمين كتابة يومياته منذ كان في الثانية عشرة من عمره، يقول عن فكرة كتابة سيرته الذاتية التي جاءت بعنوان “ماذا علمتني الحياة”: “بدأت تنفيذها عندما كنت في لوس انجلوس أدرس لمدة سنة وكان عندي فراغ أكثر من المعتاد فبدأت أكتب كل شىء أعتبره ظريفا أو عن شخصية أعتبرها لطيفة فكتبت مرة عن صلاح جاهين عندما قابلته بالإسكندرية وهكذا بدون ترتيب، ثم خطر علي بالي أن أكمل الكتابة”.
ويعترف د. أمين أن هناك أشياء أخفاها بالطبع فلا أحد يستطيع أن يقول الحقيقة كاملة “كلنا ارتكبنا أخطاء وأشياء نخجل منها وإلا ما كنا بشرا، وأنا قلت أشياء كثيرة صريحة، وبعض الناس استغلطوني فيها ولكنني لازلت اعتقد أنني كنت على صواب لأن الذي ذكرته علي أمي وأبي لا ينقص من قدرهم، أين المشكلة في أن أمي أحبت ابن خالها وعمرها 17 عاما وتقدم للزواج بها”..!
يروي أمين كيف أن والدته التي لم تكن تشعر بالأمان، كانت تحتفظ لنفسها بجزء من مصروف البيت حتى اشترت الفيلا التي يعيشون فيها وجعلت والده يدفع ايجارا لمنزله الذي اشترته منه بمبلغ قليل.
**
أراد د. لويس عوض أن يلملم “أوراق العمر” قبل أن تتبعثر وتتساقط، وبعد عام واحد رحل..! بجرأة لا يملكها إلا د. لويس كتب سيرته الصادرة في 1989، وفيها يقدم نقدا للحياة وللآخرين وللذات أيضا، يقسو على نفسه مثلما يفعل مع الآخرين، فها هو يعتبر أمير الشعراء أحمد شوقي ما هو إلا “شاعر سخيف أرستقراطي وينافق الجماهير”، بينما يصف أم كلثوم بـ “المغنية المليونيرة” التي تغني للاشتراكية، أما كتابات د. طه حسين ود. محمد حسين هيكل الإسلامية؛ فيعتبرها تحولت من الكتابة الثورية إلى الكتابة في الموضوعات الرائجة، واصفا هذه التحولات بـ”الزندقة الفكرية”..!
**
في حوار شجي يصور لنا د. شكري عياد، أستاذ الأدب العربي، حلمه الدائم بالحرية، في سيرته الذاتية التي كتبها بعنوان “العيش على الحافة” لأنه أراد تلك الدرجة من الصدق التي تسبق الصمت مباشرة، وتقع على الحافة بين الصمت والكلام.
كره عياد النمطية فى أى صورة من صورها، وتميز بفردية “فظيعة”، إذا هتف الناس لا يهتف، وإذا صفقوا “لا أصفق إلا رعاية للمظاهر. لا أقول آمين وراء الإمام فى الجامع إلا لتصح صلاتي.
لا أحب أن اكون نسخة بين ألاف النسخ أو مئاتها أو عشراتها. والآن يرعبنى التفكير فى “الاستنساخ” وأراه آخر درجات الانحطاط في تاريخ الجنس البشرى”..!
رحل عياد 1999 بعد أن اصطفى من نفسه رفيقا، فأصبح الرفيق سجانا “سجني الروحي كاد يقتلني .. لم يبق من الدنيا شيء يشوقني، لم يبق في الدنيا شيء يناديني .. خواء العالم من حولي زادني وحشة، بعقلي كنت أرى وفي أعماقي كنت اختنق”. السيرة الذاتية مخبوءة في الصدور ( 2 )
” خواء العالم من حولي زادني وحشة ”
بقلم : حمدى رزق
علي هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب ، ذهبت باحثا عن جديد المذكرات والسير الذاتية مدفوعا بأصداء السيرة الذاتية لأديب نوبل ، طيب الذكر ” نجيب محفوظ “.
بحثت عما يروي غلتي لسيرة حقيقية لإنسان حقيقي يروي ما تيسر من سيرته الذاتية دون كذب أو تجمل ، دون خجل أو وجل ، سيرة عادية لا تتخفي وراء كنايات لغوية ، سيرة شفافة فيها ما فيها من توفيق وإخفاق ، وحب وكراهية ، ووفاء وخيانات ، سيرة بشرية ، والقاعدة النبوية الشريفة تقول :” كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ” .
عدت بخفي حنين ، لجأت إلي مكتبتي المتواضعة أراجع ما تحويه من سير ومذكرات صدرت وكانت ملهمة يقينا .. وهذه هوامش شحيحة علي متون بعضها ..
**
في إحدى قرى البحيرة عاش د. يحيى الجمل طفولته في حضن جدته التي ربته حتى تخفف على ابنتها معاناة تربية الأطفال والبيت. إنها الجدة التي كان رحيلها علامة فارقة في حياة الجمل الذي وقر في قلبه أن جوعه للحنان سيظل جوعًا أبديًا بغير ارتواء!
“قصة حياة عادية” يرويها الجمل في جزأين، يتحدث فيها عن دراسته للحقوق في السنوات ما بين 1948 و1952. والتي تعتبر سنوات الغليان في الحياة المصرية بعامة وفي الجامعة بخاصة. جاء الشاب “يحيى” إلى القاهرة لأول مرة عن طريق الأتوبيس، والتي كانت تختلف عن كل المدن التي رآها من قبل، فالقاهرة مبهرة بعالم آخر وسيارات كثيرة والناس فيها يمضون بسرعة.
تخرج الجمل من كلية الحقوق التي كانت مصنع إنتاج الوزراء في ذلك الزمان، وحصل على الدكتوراة وتولى العديد من المناصب، لكن رغم ذلك يظل هواه في مدرجات كلية الحقوق ومع طلابها، وهو الهوى الذي لم يبارحه قط.
في الجزء الثاني يستعرض ما واجهه من صراعات، ويشير الى تجربته عندما عين مستشاراً ثقافياً في باريس قبل أن يصبح وزيرا برئاسة السادات بعد حرب أكتوبر، ثم في وزارة عبد العزيز حجازي. يخوض غمار الحياة الحزبية في فترة من أكثر الفترات قلقا وتوترا في تاريخ مصر، وينتهي الكتاب بحادث مصرع السادات 1981.
**
كتب د. شريف حتاتة سيرته في ثلاثة أجزاء بعنوان “النوافذ المفتوحة”، كان همه الأول أن يقدم هذه الحياة كما عاشها، ورآها، بلحظات القوة والضعف، والشجاعة والجبن والانتهازية والقدرة على التمسك بالمبادئ، وبالأشياء المضيئة أو المظلمة الصغيرة التى هى جزء من الفهم، ومن حركة الوعى. كيف يتعلم الإنسان، ويتغير بجهد يومى مستمر رغم الفشل، والنكسات والتراجعات التى تصيبه.
الفشل في كتابة رواية عن الحب كان السبب المباشر الذي قاد د. حتاتة إلى كتابة السيرة الذاتية، بعدما قام بمحاولتين كتب فيهما روايتين كاملتين لكنه لم يرض عنهما، فتحولت إلى كتابة السيرة الذاتية التي أخذ ذهنه ينشغل بها واستحوذت عليه.
لكن ربما السبب الأهم هو ذلك القهر الذى عانى منه طوال حياته، قهر فى الأسرة وفى المدرسة فى الكلية، وفى مهنة الطب، قهر المجتمع بقيمه، “الدولة لم تكف عن مطاردتى طوال مراحل حياتى وفى كل المجالات. لم استطع أن اعبر عن نفسى، أن افرد جناحي للريح وأطير، فأردت أن أصيح بملء صوتي، أن أقول أنا هنا”.
**
بدأ د. جلال أمين كتابة يومياته منذ كان في الثانية عشرة من عمره، يقول عن فكرة كتابة سيرته الذاتية التي جاءت بعنوان “ماذا علمتني الحياة”: “بدأت تنفيذها عندما كنت في لوس انجلوس أدرس لمدة سنة وكان عندي فراغ أكثر من المعتاد فبدأت أكتب كل شىء أعتبره ظريفا أو عن شخصية أعتبرها لطيفة فكتبت مرة عن صلاح جاهين عندما قابلته بالإسكندرية وهكذا بدون ترتيب، ثم خطر علي بالي أن أكمل الكتابة”.
ويعترف د. أمين أن هناك أشياء أخفاها بالطبع فلا أحد يستطيع أن يقول الحقيقة كاملة “كلنا ارتكبنا أخطاء وأشياء نخجل منها وإلا ما كنا بشرا، وأنا قلت أشياء كثيرة صريحة، وبعض الناس استغلطوني فيها ولكنني لازلت اعتقد أنني كنت على صواب لأن الذي ذكرته علي أمي وأبي لا ينقص من قدرهم، أين المشكلة في أن أمي أحبت ابن خالها وعمرها 17 عاما وتقدم للزواج بها”..!
يروي أمين كيف أن والدته التي لم تكن تشعر بالأمان، كانت تحتفظ لنفسها بجزء من مصروف البيت حتى اشترت الفيلا التي يعيشون فيها وجعلت والده يدفع ايجارا لمنزله الذي اشترته منه بمبلغ قليل.
**
أراد د. لويس عوض أن يلملم “أوراق العمر” قبل أن تتبعثر وتتساقط، وبعد عام واحد رحل..! بجرأة لا يملكها إلا د. لويس كتب سيرته الصادرة في 1989، وفيها يقدم نقدا للحياة وللآخرين وللذات أيضا، يقسو على نفسه مثلما يفعل مع الآخرين، فها هو يعتبر أمير الشعراء أحمد شوقي ما هو إلا “شاعر سخيف أرستقراطي وينافق الجماهير”، بينما يصف أم كلثوم بـ “المغنية المليونيرة” التي تغني للاشتراكية، أما كتابات د. طه حسين ود. محمد حسين هيكل الإسلامية؛ فيعتبرها تحولت من الكتابة الثورية إلى الكتابة في الموضوعات الرائجة، واصفا هذه التحولات بـ”الزندقة الفكرية”..!
**
في حوار شجي يصور لنا د. شكري عياد، أستاذ الأدب العربي، حلمه الدائم بالحرية، في سيرته الذاتية التي كتبها بعنوان “العيش على الحافة” لأنه أراد تلك الدرجة من الصدق التي تسبق الصمت مباشرة، وتقع على الحافة بين الصمت والكلام.
كره عياد النمطية فى أى صورة من صورها، وتميز بفردية “فظيعة”، إذا هتف الناس لا يهتف، وإذا صفقوا “لا أصفق إلا رعاية للمظاهر. لا أقول آمين وراء الإمام فى الجامع إلا لتصح صلاتي.
لا أحب أن اكون نسخة بين ألاف النسخ أو مئاتها أو عشراتها. والآن يرعبنى التفكير فى “الاستنساخ” وأراه آخر درجات الانحطاط في تاريخ الجنس البشرى”..!
رحل عياد 1999 بعد أن اصطفى من نفسه رفيقا، فأصبح الرفيق سجانا “سجني الروحي كاد يقتلني .. لم يبق من الدنيا شيء يشوقني، لم يبق في الدنيا شيء يناديني .. خواء العالم من حولي زادني وحشة، بعقلي كنت أرى وفي أعماقي كنت اختنق”.