ما الحب إلا للحبيب الأول..
تذكرتُ “المصور”.. والسنين الخواليا..
بقلم : حمدى رزق
قال “أبو تمام”: “نقل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول . كم منزل في الأرض يألفه الفتى / وحنينه أبدا لأول منزل”.
كتبت كثيرا في جرائد ومجلات شتى، ولكن ما الحب إلا للحبيب الأول، والحب الأول بل الحب كله للحبيبة “المصور”، وكل مقال في حب الحبيبة وكأنه أول مقال، حب متجدد كنهر جار، وكلما أبتعدت أقتربت، الحنين للحبيبة، يترجم حبا، وكما تغني الست “ثومة”، “لو كنت خدت على بعادك كنت أقدر اصبر واستنى / واسهر على ضي ميعادك لما الزمان يجمع بينا”..
كتبها طيب الذكر “أحمد رامى” ولحنها العظيم “رياض السنباطى” وشدت بها كوكب الشرق هكذا، “عودت عيني على رؤياك وقلبي سلم لك أمري”، وبالمثل عودت قلمي على الكتابة في “المصور”، وإن مر يوم من غير رؤياك.. ما ينحسبش من عمري، وإن مر عدد من غير كتابة.. ما ينحسبش من عمرى الصحفي.
**
أكتب عن المصور، الحبيبة الأولى والأخيرة، بينى وبينها “زواج كاثوليكي”، حتى فى “عام الرمادة” يوم منع الإخوان مقالى قسرا تعذبت كثيرا، مثلما قال رامى، لو كنت خدت على بعادك كنت أقدر أصبر واستنى / وأسهر على ضي ميعادك لما الزمان يجمع بينا / ابات على نجواك واصبح على ذكراك.
اكتب عن ذكري مؤلمة، لم اتخيل يوما أن اغادر بيت العائلة، مرتع الصبا والشباب، مؤل الأحلام، غادرتها جسديا وروحى معذبة، واسرح وفكري معاك لكن غالبني الشوق فى هواك.
بالتجربة الأليمة من يرسم اسمه فى “المصور” لا يغادرها روحا، وإن غادرها جسدا لأسباب، ولكنها تظل عالقة فى قلبه مثل حب أول، نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، ولكن تظل المصور حبيبة اولى جديرة بالاشتياق.
المصور ليست مطبوعة باردة، انها دفتر حياة دافقة، وفى مروجها (صفحاتها) خطونا، وعلى ارائكها جلسنا، وفى ربوعها حلمنا، وفى مرابعها غنينا للحياة وللحب وللوطن، المصور حياة كاملة، أفراح وأتراح، قصص وحكايات، معارك وتحديات، أسماء وأفكار، شيوخ وشباب، وأجيال تسلم أجيال، وأجيال وراء أجيال.
وحدها معمرة (بلغت من العمر المائة ولا تزال شابة وانت الجدع)، أما نحن فتفنى أعمارنا تحت فروعها الظليلة، منا من قضى نحبه ومنا من ينتظر، المصور شجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها فى السماء.
هل حلم المؤسسون هكذا انها ستعمر طويلا، هل حلم الحالمون أن تناهز المائة عمرا، ولاتزال شابة قوية عفية مثمرة أطيب الثمر.
تاريخ المصور من تاريخ الوطن، ورسالتها من رسالة الوطن، وصفحاتها دفتر أحوال هذا الوطن الطيب، وصورة الوطن مرسومة ومصورة فى صفحات المصور، طالعوا صورة الوطن، واذا تاقت روحك اشتياقا لصورة الوطن، المصور ترويك من نبعها الصافى، سجل مصر المصور فى المصور يكفينى الكلام عند التحدى.
**
تجارب في الكتابة خارج الرحم لم تسعدني كثيرا، وفي كل مرة أغادرها لا أطيق فراقا، يقينا قلوب المصور البيضاء، تدعي لابن من أبنائها في غربته، اغادرها وأنا اقولها انك احب المجلات إلى قلبي، ملتمسا العفو، واتمنى لها بزوغا، ونورا، وتقدما، وطموحا، ربما يطول الفراق، وياويل من يكتوى بألم الفراق، وأعود سريعا لا احتمل الفراق، وكما قال “قيس بن الملوح”، ى رائعته “تذكرتُ ليلى والسنين الخواليا”، تذكرتُ المصور والسنين الخواليا، فودعتها يوم التفرق ضاحكا.. إليها ولم أعلم بأن لا تلاقيا، وَقَد يَجمَعُ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدَما يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَن لا تَلاقِيا. أو كما قال: فلو كنت أدري أنه آخر اللقا، بكيت وأبكيت الحبيب المصافيا.
**
محظوظ أنا أن توليت رئاسة تحرير هذه المطبوعة العريقة (مارس 2009 / يوليو 2012)، وجلست على مقعد العظماء وأنا صحفى مغمور، كبراء مبجلون، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، جورجى زيدان وفكرى اباظه وأحمد بهاء الدين ومكرم محمد أحمد وعبد القادر شهيب، وبينهم من حمل الأمانة مقدرون ممن لا تتسع لذكر فضائلهم هذه السطور، علامات على الطريق، حفروا اسم المصور فى الوجدان المصرى والعربى، عرفت المصور بهم، وعرفوا بالمصور، رفعوا إلى أعلى عليين فى مكان محفوظ.
أخطأت وأصبت، وحاولت، ونجحت واخفقت، ولكنى احببت، واخلصت فى حبى، ولم يغادر حبها قلبى، وأفرح لفرحها واحزن لو مسها الدر، واقف على حروفها مدافعا عن بقاءها، ففى بقاءها حياة، وأجيال على درجها الرخامى طالعين لوش النشيد، لله در الشباب.
تجربتى القصيرة فى عمر المصور الطويل للتاريخ، تاريخ المصور، وسطر من هذا كتبته في هذه المساحة التي أتاحها بأريحية أخي وصديقى “أحمد أيوب”، وعلى الدرب يسير ابني “عبد اللطيف حامد”، ومدين بالشكر لرفاق الدرب، سليمان عبد العظيم وعزت بدوى وغالى محمد وحلمى النمنم، كنت بينهم مثل نقطة وصل بين خبرة الشيوخ وهم علامات فى طريق “دار الهلال” وطموح الشباب الذى يمثله أيوب وجيله ممن لا تتسع لذكرهم هذه السطور.
كل منهم وضع لبنة فى البناء العظيم، وتولى رفاق الدرب المهمة فى المصور تواليا مشرفا مخلصا لاسمها العريق، كل منهم ترك بصمة وحافظوا على التراث العريق لدار تحدت الزمان وبلغت من العمر قرنا وربع قرن شامخة منيرة حادبة على التنوير ، وتشرفت دار الهلال ومجلة المصور أن صار ابن أيامى حلمى النمنم وزيرا لثقافة مصر، وهذا من حسن طالع دار الهلال ويكتب بمداد الفخار.
ما أبدع وديع الصافي وهو يبكينى ويبكى ابن أيامى مجدى سبله ونحن نمضى فى مشوار الحياة برائعته “دار يا دار يادار”. أتذكرها نغما بلحن موهوب عصره واوانه بليغ حمدى، يادار قولي لي يادار/ راحوا فين حبايب الدار / فين فين قولي يادار / لياليك كانت نور / يسبح فى ضيه بحور.
مثل شاعرنا الكبير حسين السيد من يفقد داره يفقد روحه، لياليك كانت نور، منورة يا دار الهلال، منورة يا أجمل المجلات، المصور منورة بأهلها، المصور أقوى من الزمان، منقوش فى اسمها سر البقاء.