صطفى عبيد يكتب
الفتنة الكبرى مازالت مشتعلة… مقال حول القتلة الأوائل..
Mostafawfd@hotmail.com
بدل السكوت
ـــــــــــــــــ
الفتنة الكبرى مازالت مشتعلة
الصراع على السلطة مُر، وإن تدَّثر بأردية التقوى.
الصراع صراع، كراهية مُحتدمة، تناحر مقيت، غِل لا حدود له، وتنحية لمشاعر الرحمة والرأفة واللين، شد وشد مُضاد، تربُص بالمُنافس، وضغط، واستحلال لدمه، وسعي حثيث لتصفية الآخر.
ما دفع الأتقياء الرحماء الموصومين بالصلاح للاقتتال على السُلطة، هو ذاته ما يدفع كل ساعٍ إلى ما هو أشر وأنكى، حتى لو ألصق أسبق اسمه بأمير المؤمنين، أو ألحقه بالناشط الإسلامي.
هذا ما يُسجله إبراهيم عيسى بسلسلته الإبداعية الرائعة “القتلة الأوائل”، والتي اختتمها مؤخرا بالرواية الثالثة “سيوف الآخرة”.
سردت الرواية الأولى “رحلة الدم” حادث اغتيال الخليفة الثالث بعد وفاة الرسول، عثمان بن عفان سنة 35 ه، ثم تناولت الثانية والتي حملت عنوان “حروب الرحماء” الحرب بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وما فيها من مجازر ومكائد، ثم رصدت الرواية الثالثة، نهاية الخليفة علي بن أبي طالب على أحد قراء القرآن المتشددين في جيشه وهو عبد الرحمن بن ملجم، لينفتح أمامنا جُرح تاريخي عظيم ينُبئنا بوضوح أن الإسلام دين علماني بامتياز ولا يجوز توظيفه سياسيا ودنيويا تحت أي زعم.
يبدو المشهد صادما، ونحن نجد صحابة رسول الله يرفعون سيوفهم في مواجهة بعضهم البعض، ليهتف كل منهم بأن ما يفعله، يفعله خالصا لله. مسلمون ضد مسلمون، ومصلوّن يقاتلون مصلين، وحجاج يدعون على حجاج آخرين بالهلاك، وموت يوزع على أرض يدعي فيها كل المتقاتلين أنهم على الحق. هذا في تصوري ما دفع عميد الأدب العربي طه حسين قبل عدة عقود إلى اطلاق وصف “الفتنة الكبرى” على ما جرى من حروب، ربما ليُخفف من حدة ما جرى من وقائع مُخيفة سالت فيها دماء الآلاف، وانتهكت حُرمات، وأبُطلت عهود، وأنُكرت قيم، ورغم ذلك ما زال البعض يُصر على تسميتها بسنوات الخلافة الراشدة، ويجرون الناس جرا للعودة إليها.
يتجرأ إبراهيم عيسى كعادته ويفك الأربطة الملفوفة على الأجساد الثخينة بجراحها، ويُسمي الأسماء بمسمياتها، مُستعينا بُكل ما كُتب ليُقدم لنا شهادة إبداعية جديدة تقول إن القتل لا يُمكن أن يكون لله، صائغا أوضح دليل على حتمية فصل الدين عن السياسة تماماً.
ينفرد إبراهيم عيسى بين مبدعي جيله بعشق المخاطرة، يقامر بروحه في حقول ألغام عشوائية، لا يلتفت لإشارات المرور، ولا يستمع لصفارات الإنذار، يمضي كرصاصة واثقة نحو هدف وحيد هو شحذ العقل للتفكر في كل شىء ومحو القداسات الكاذبة.
أحسد إبراهيم عيسى على شرود ذهنه، جموح فكره، دأبه، تحفزه، وتجهزه، ثُم حكيه بلغة مقاربة للعصر المحكي عنه، ورسمه للشخصيات بتدقيق، وواقعية، وتجرد عظيم، واستقراء شامل للدوافع الإنسانية والخلفيات النفسية، دون إضفاء القداسة المُبددة للعظة والعبرة المفترضة.
في الرواية الثالثة، كما في سابقتيها نزع كامل للقداسة عن الصحابة، وفصل تام للتاريخ عن صحيح الدين، وأنسنة قيّمة للأحداث دون تلفيق أو تجميل، ليوظف النص الروائي في مسار جديد هو توثيق التاريخ وحكيه بشكل أكثر جاذبية.
سيرا على الألغام يُبرهن لنا النص أن الكذب على الله مُكرر، والافتئات على الدين مُتجدد، وطلب الدنيا بأردية الدين معروف وقائم مُنذ وفاة النبي”ص”، وهو ما يدفعنا للتفكر والتأمل ومراجعة كثير من المقولات الراسخة التي تحجب العقل، وتُنحي المنطق، وتسوق القطيع، وتستغل الجهل المُهيمن على الناس.
سيكتب آخرون ربما بعد نصف قرن أو أكثر أن ثلاثية القتلة الأوائل هي أبلغ نص مقاوم للتعصب والتطرف الديني واستغلال محبة الدين في قلوب العباد، لتحقيق المكاسب والمآرب.
وفي ظني وكثير من ظنوني آثمة في نظر البعض، فإن كان ثمة إنجاز يُمكن عمله لمقاومة الارهاب في عالمنا العربي والإسلامي، فهو تحويل مثل هذا النص المكتوب إلى دراما حية يُشاهدها الناس، فُربما تتغير الألباب وتنشىء أجيال جديدة تُفكر في الإنسان وتنظر إلى الغد.
ولأن الفتنة مازالت قائمة، فرحم الله من أخمدها… والله أعلم.