محمد نجم
.. وكان أبوهما صالحا
بسم الله.. والحمد لله.. والله أكبر..
اعتدت سماع القرآن المجود بصوت المرحوم مصطفى إسماعيل، خاصة عندما يقرأ سورتى النمل والتحريم، وفى شهر رمضان كل عام أحرص على ختم المصحف مع التلاوة المرتلة للشيخ محمد صديق المنشاوى بقراءته الروحانية وصوته الخاشع لله.
وكنت أتوقف كثيرًا عند قراءته لسورة الكهف، والتى تتضمن قصة لقاء سيدنا موسى والخضر الذى وصف بـ «العبد الصالح»، وقد أوحى الله لموسى بلقائه والتعلم منه، واشترط عليه الخضر ألا يسأله عن أفعاله التى سيشاهدها، وهو ما لم يحدث مع الاعتذار من قبل موسى والوعد بعدم التكرار.
وكنت أتوقف للتأمل ولمزيد من الفهم عند الآية، التى جاءت على لسان الخضر تفسيرًا لإعادة بنائه لجدار كان يريد أن يسقط، ودون أن يأخذ عليه أجرًا، وهى (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَوَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).
والمعنى أن صلاح الوالد ذو أثر ممتد للأبناء، وهذا الصلاح كان سببا فى الحفاظ على الكنز المدفون الذى –بتدخل الخضر– مكنهما من استخراجه والعيش منه فى رغد وراحة بعد مرحلة اليتم والفقر.
يا سبحان الله.. فقد وصلا لقرية رفض أهلها استضافتهما وإطعامهما وهم غرباء ويبدو عليهما الجوع والإرهاق، ومع ذلك يقوم الخضر بإصلاح الجدار الآيل للسقوط (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ)، وهو الفعل الذى استفز سيدنا موسى وسأله، كيف تعيد بناء الجدار وهم لم يضيفونا (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)، ولكن هى رحمة الله سبحانه وتعالى لأن أبوهما (كان صالحا) فسخر لهما الخضر ليرممه ليظل قائما خافيا للكنز حتى يشتد عودهما، ويتمكنا من استخراجه!
فما فعله الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام وإصلاح الجدار كان بتوجيه من الله سبحانه وتعالى، وخاصة كنز الأيتام، كجزاء متأخر على الصفة السابقة (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً).
وإذا كان الغلامان اليتيمان حصلا على كنزهما كجائزة مقابل لصلاح أبوهما، وكان شخصا عاديا طبقا لما يفهم من الآيات، فماذا عن سيدنا نوح النبى المرسل الذى وصف الله ابنه بالعمل غير الصالح.. نوح الذى أرسله الله لقومه نذيرا مبينا، ليطلب منهم عبادة الله خوفا من العذاب الأليم يوم القيامة؟
فعندما لم يستجب له قومه إلا قليلا، أمره ربه بصنع سفينة ليحمل عليها من كل زوج اثنين، وأهله إلا من سبق عليه القول.. وهى إشارة لابنه الذى رفض الركوب، وفضل أن يكون مع الكافرين، مدعيا إمكانية لجوئه لجبل يحميه من الماء الفائر.
ولكن لأن نوحًا أب.. دعا ربه أن يعفو عن ابنه، فكان الرد الحاسم (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).
وأيضًا.. فى سورة التحريم عندما يقص القرآن عن أخبار الأمم السابقة، فتقول الآية الكريمة (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).
سبحان الله.. لقد كشفت الآيات أن (الصلاح) هو الصفة المتممة لصحة الإيمان وتمام الخشوع للواحد الخالق القهار، ولا يستثنى من ذلك حيا أو ميتا وشخصا عاديا أو نبيا ورسولا!
حيث يصف الله سبحانه نبييه نوحا ولوطا بالعبدين الصالحين من عباد الله، ومع ذلك عوقب غرق ابن الأول فى المياه، ووعد زوجتا الاثنين بدخول النار، ولم يشفع لهما أنهما كانتا زوجتي نبيين فى الإفلات من العقاب.
فالعبرة هنا ليست بمجرد الإسلام والنطق بالشهادة والقيام بالعبادات (الإسلام الظاهرى)، فقد وصف الله البعض من هؤلاء (لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ).
لأن الإسلام الحقيقى هو ما وقر فى القلب وصدقه الفعل وكشف عنه العمل الصالح، لأن الأخير هو مظهر الإيمان والكاشف عنه، لأنه تعبير عن الالتزم بالأوامر والامتناع عن النواهى، مع الصدق فى القول والعمل واتباع الصراط المستقيم.
ويكفى هنا الإشارة إلى شرط «الصلاح» المنجى، سواء كان فعلًا أو اسمًا أو صفة، إن كلمة الصالحات وردت بالقرآن فى 61 موضعا، وصفة «صالحا» فى 36 موضعا، و«أصلح» كفعل ماضٍ فى 8 مواضع.
لقد وعد الله «الصالحين» بالجنة، وعدم الخوف والحزن؛ فيقول فى سورة الأنعام (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) الآية 48.
(وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً) الفرقان 71.
وهذا سيدنا سليمان عندما تبسم ضاحكا من تحذير النملة الحارسة لقومها بالاحتياط ودخول المسكن حتى لا يحطمنهم الجنود – يدعو ربه أن يعينه على شكر نعمته التى أنعم بها عليه ووالديه وأن يعمل صالحا بالقدر الذى يرضاه.
لقد أوتيا «سليمان ووالده» من كل شىء، حيث حُشد له جنوده من الإنس والجن والطير، ومُنحا العلم والمال والسلطان ما لم يعطه لأحد من قبلهما، وفضلهما على كثير من عباده المؤمنين، ومع ذلك يطلب من ربه (َأوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
ونختم بالعديد من الآيات التى وعد الله بها الصالحين، بحسن الخاتمة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) «طه 83» (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) «المؤمنون 51»، (وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) «البقرة 25» (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) «النحل 79» (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ) «النساء 122» (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) «البقرة 82».
أصلحوا.. يصلح الله أعمالكم.. ويحسن خاتمتكم