في أحدث مقالاته يطل علينا الكاتب الكبير عبد الفتاح الجبالي بأربعة مستجدات :
الأولي : أن كل نظريات وبرامج التنمية الإقتصادية منحازة وأسيرة الأفكار التقليدية . ولهذا لم تحقق النتائج المرغوبة .
الثانية : أننا أمام تجليات كارثية في كل مكان بالعالم … لافرق بين الدولة الفقيرة والدول الغنية .
الثالثة : إن ماحدث ويحدث دفع عددا من المفكرين والباحثين الي إصدار بيان يعرف بإسم خوارج النظريات الإقتصادية ..
الرابعة : إن نظرية التنمية الإقتصادية المستقلة وتدخل الدولة تثبت نجاعتها في عالم اليوم .
هذه النتائج نقرأها بالتفصيل ، في مقالة واحدة ، لكنها بالغة الغني والثراء بالمعلومات والتحليلات ..
—————————————
تجديد الفكــر الاقتصـــــــــــادى
—————————————
عبد الفتــــــــــــاح الجبـــــــــــــالى
إن الفكر الاقتصادى الذى تحطمت أساسياته حاليا، يترك رجل الاقتصاد فى مواجهة قضايا العصر، وقد جرد من سلاحه وتفتتت معارفه وغدت نظرته جزئية امام تلك الهوة السحيقة التى تفصل بين بناء نظرى يسعى الى تحقيق تناسقه، وبين عالم يبحث عن حلول وإجابات لمشكلات متفاقمة..
بهذه العبارة البليغة لخص لنا المفكر الاقتصادى الفرنسى ميشيل بو الوضع الحالى لعلم الاقتصاد بعد أن قام بجولة شاملة فى تاريخ «الفكر الاقتصادى» منذ كينز وحتى الآن، وهى تعكس أهمية الكتاب الذى بين أيدينا والمعنون «تجديد الفكر الاقتصادى للأستاذ الدكتور إبراهيم العيسوى والذى أصدره معهد التخطيط القومى بالتعاون مع الهيئة المصرية للكتاب، حيث تناول فيه الكاتب بالنقد والتحليل الفكر الاقتصادى السائد وتقييم لبعض مقاربات تطويره، وهى تكاد تكون المحاولة المصرية، بل والعربية، الاولى التى تتناول هذا الموضوع بهذا الشمول وبهذه الرؤية، فعلى الرغم من بعض الكتابات التى قام بها كل من د.محمود عبد الفضيل فى كتابه المعنون «فى نقد التحليل الاقتصادى المعاصر»، وكذلك كتابا د.جلال أمين «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية»، والثانى «فلسفة علم الاقتصاد..
بحث فى تحيزات الاقتصاديين وفى الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد» الا انهما لم يتناولا الموضوع بالشمول اللازم واكتفيا بعرض بعض الانتقادات للنظرية الاقتصادية، من هنا تأتى أهمية هذا العمل وذلك بعد ان اثبتت جميع الدراسات العلمية ان استراتيجيات التنمية التى طبقت على مدى الحقب الماضية ادت الى نتائج سيئة وازدياد معدلات الفقر والبطالة، وادت الى فقدان معنى العيش معا، ومعنى المنفعة العامة، وانعدام الأمان الوظيفى والاجتماعى وأضرت بأهداف النمو والعدالة الاجتماعية، أى انها فشلت تماما فى تحقيق الأهداف المنوطة منها.
وهكذا تزداد الفجوة وتتعمق بين ما يجب فهمه والأدوات النظرية الضرورية لذلك الفهم، فقد سادت خلال الحقب الماضية وتعاقبت مذاهب تحكمية ومتناقضة ولكنها هٌجرت واحدة تلو الأخرى تحت وطأة الواقع المعاش. وتدلنا القراءة التاريخية للتجارب التنموية المختلفة على أنها لم تسر على وتيرة واحدة، فعلى الرغم من أنها بدأت فى القرن التاسع عشر مع سياسة الحرية الاقتصادية والمتوافقة مع أفكار آدم سميث فانها غيرت هذا المسار عدة مرات، فلجأت مع فترة الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن العشرين الى التخلى عن هذا المبدأ لمصلحة تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى فى إطار النظرية الكينزية.
وهو النظام الذى ظل قائما بشكل أو بآخر حتى منتصف السبعينيات حين انتهى مع تصاعد موجات البطالة والتضخم. وظهرت الثورة المضادة التى تمثلت فى أفكار مليتون فريدمان الذى طالب بالعودة مرة أخرى للانفتاح الخارجى والحد من تدخل الدولة والاعتماد على الرأسمالية باعتبارها الوحيدة القادرة على إحداث النمو شريطة إزالة جميع العوائق التى تحول دون حرية تدفق السلع والخدمات.إلخ، وهكذا انتهى القرن العشرون بتخلى الاقتصاد الكينزى عن عرشه لمصلحة ما اصطلح على تسميته، توافق واشنطن، والذى اعتمد أساسا على وصايا الصندوق والبنك الدوليين والتى تنطوى على السير فى الاتجاه الرأسمالى المطلق.
وهو المسار الذى انتج العديد من الآثار السلبية وقد تكفل بإيضاحها العديد من الاقتصاديين المرموقين وعلى رأسهم ستجليتز وبول كروجمان وغيرهما، وكلهم اصطدموا بالنتائج السلبية التى برزت من خلال السير فى هذا المجال. وهو ما أدي، كما أشار الكاتب الى السخط المتزايد لدى طلاب الاقتصاد إزاء المناهج الجامعية التى تدرس مقارنة بما يجرى فى الواقع، وهى الحركة التى بدأت فى فرنسا عام 2000، وامتدت لتشمل معظم الأقطار الغربية، وأطلق عليهم اقتصاد الخوارج، وضغطوا من اجل تطوير علم الاقتصاد وتحديث برامج تدريسه، وطالبوا بضرورة مد الجسور بين أفرع الاقتصاد وبينها وبين العلوم الأخرى كعلم النفس والسياسة والتاريخ والفلسفة وما الى ذلك، وإبراز الدور الذى تلعبه الأخلاق والنزاهة، فى مقابل التركيز السائد على تعظيم الربح.
وفقا للبيان الصادر عام 2014 وأكدوا فيه ان ما يتلقاه الطلاب اليوم من علم لايستحق مكانته المهيبة فى الفكر الاجتماعي، وقد طرح الكاتب تساؤلا مهما وهو لماذا لم يسهم الاقتصاديون العرب فى هذه المسألة؟ ويرى ان ذلك يعود الى أولا تخلف النظم التعليمية وضعف مؤسسات البحث العلمى وركود المناخ العلمى والثقافي، وثانيا ان أغلب الاقتصاديين العرب تربوا على الفكر التقليدى وأصبحوا أسرى الأطر الفكرية التى صاغها الغربيون وثالثا يكمن فى التركيز على القضايا التطبيقية عموما والسياسات الاقتصادية على وجه الخصوص وأخيرا غياب الديمقراطية العربية،
وقد كشف الكاتب عن عيوب خطيرة فيما تقوم عليه هذه النظريات من مسلمات وافتراضات ومن ثم فيما تتوصل اليه من نتائج، وبالتالى فان الفهم السليم للسلوك الاقتصادى يتطلب هجر الكثير من الأفكار التقليدية، فالبون شاسع بين افتراضات السوق، الكفء والأداء الفعلى للاسواق، وهكذا فانه لاغنى عن دور نشيط للدولة لإصلاح الأسواق ومن ثم تحسين قدرتها على العمل ولمواجهة الآثار الاجتماعية لأداء السوق خاصة سوء توزيع الدخول ومكافحة الفقر.
ويؤكد ان هذا المنهج التنموى لاينطوى على استبعاد القطاع الخاص او اليات السوق ولكنه يقضى بان تجرى ممارستهما فى اطار المخطط التنموى العام الذى تضعه الدولة فى سياق ديمقراطى يكفل مشاركة شعبية حقيقية، وهكذا يرتكز هذا المنهج التنموى على مبدأ الاعتماد على الذات والديمقراطية التشاركية وعدالة توزيع الدخل والثروة، ويوفر أساسا قويا لاستدامة التنمية،
ويؤكد أنه لاسند إطلاقا من المنطق او التاريخ لمقولة لابديل للنيوليبرالية، وان الكثير من الحجج التى تساق لتبرير ذلك مشكوك فى سلامتها، لذلك فإن مقاربة التنمية المستقلة هى الأنسب لظروف الدول النامية واحتياجاتها والأقدر على تحقيق تنمية إنسانية قابلة للاستدامة.
وهكذا استطاع الكاتب ان يضع امامنا جدول أعمال للمستقبل حافلا بالعديد من القضايا الأساسية والمنهجية التى تحتاج الى المزيد من التأمل وإعمال الفكر بغية وضع التصورات الرئيسية حول الأطر المستقبلية عبر دراسة التاريخ والتحليل العميق لأخطاء الماضى والابتعادعن التأكيدات السريعة والمشحونة بالانفعالات. والبعد عن الأفكار البالية والرجوع عن الكتب العتيقة المتربة والبحث فى آليات جديدة. وهو ما يحتاج وبحق الى بناء العقل النقدى والخلاق باعتباره أحد الآليات الداعمة للنهضة المصرية المنشودة.