الاشتباك بالشفرة الجينية
مصطفى أبو لبدة
كما فتحت الحرب في أوكرانيا أبواب التكهّن باحتمالات حرب عالمية ثالثة بالأسلحة النووية، كذلك فتحت باباً للاشتباك بالتصنيفات العنصرية المراوغة، أو ما يتصل بها من السرديات التاريخية المسكوت عنها، والمتضمنة في بعضها الانشقاقات الكنسية، وفي بعضها الآخر الموروثات الجينية للقادة والشعوب.
حرب أوكرانيا نموذج لحروب الجيل الخامس التي تراوح بين تكتيكات الحرب الهجينة وبين القتال في المناطق الرمادية التي شهدنا تجلياتها خلال الأسبوع الماضي في جبهة التراشق الروسي الإسرائيلي حول ما إذا كان هتلر يحمل جينات يهودية أو ربع يهودية.
غرابةُ التجيير السياسي لاكتشافات علم الجينات، وتحويلها إلى جبهة متنقلة في عالم نكتشف أنه هش وممروض، تصبح طُرفة جدلّية لدى استعادة تفاصيلها الصغيرة، وتضحي إنذارا بإمكانية تكرارها في جبهات أخرى بعد توثيق ”مشروع الجينوم البشري“ لحقائق علمية تلغي الكثير من السرديات التاريخية للشعوب والأمم، إلغاء طالما اندرج بين المحرمات الأخلاقية.
موضوع الأزمة الراهنة بين موسكو وتل أبيب، على خلفية حديث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن الجينات اليهودية في جسم النازية وعنوانها هتلر، فيه من التفاصيل التي تضعه في نصاب أكثر شراسة مما جرى تداوله.
تقريع رئيس الوزراء
أسبوعان تقريبا، قبل حديث لافروف، كان الرئيس الروسي بعث برسالة تقريع استثنائية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يطالبه فيها بسرعة تحويل كنيسة أرثوذكسية مجاورة لكنيسة القيامة إلى الحيازة الروسية، ومبرره هو تنفيذ الستاتيكو أو الحقائق التاريخية.
وفي اليوم السابق لحديث لافروف كان فاديم بويشينكو، عمدة مدينة ماريوبول الأوكرانية، وصف روسيا بأنها أسوأ النازيين.
كانت هناك أزمة حادة تتفاعل بين موسكو وتل أبيب وتنتظر من له مصلحة بتفجيرها والتقدم فيها خطوة للأمام.
في مقابلته مع قناة تلفزيونية إيطالية، سئل لافروف عن سبب قوله ”إن روسيا تحتاج لتخليص أوكرانيا من النازيين (وهو المبرر الذي استخدمه الرئيس فلاديمير بوتين لتبرير الغزو)، إذا كان رئيس أوكرانيا نفسه يهوديا، فظهر لافروف ليجيب (كما جاء النص الرسمي على موقع وزارة الخارجية) بالقول إن الرئيس الأوكراني يجادل في أي نوع من النازية يمكن أن يكون لديهم إذا كان هو نفسه يهوديا، وتابع الوزير الروسي بالقول ”ربما أكون مخطئا، لكن هتلر كان لديه أيضا دم يهودي“.
المفارقة السياسية في قصة الدم اليهودي بجسم أدولف هتلر، تتمثل في أن السردية التاريخية للهولوكوست تقوم على كون الزعيم النازي كان مهووسا بفكرة النقاء العنصري – الجيني لأوروبا، وبالقناعة أن الحل النهائي لهذا الموضوع هو التخلص من اليهودي ومن الشوائب الأخرى التي قدمت من أفريقيا.
الأفارقة الألمان
أما السردية اليهودية الخالصة لما فعله هتلر فقد عرضتها موسوعة الهولوكست بالقول إن النازيين كانوا ينظرون للألمان الأفارقة بأنهم يهددون العرق الجرماني، وأن هتلر كان يؤمن بأن اليهود جلبوا الزنوج إلى بلاد نهر الراين بهدف مسبق هو تدمير العرق الأبيض الذي يكرهونه.
وفي تفاصيل موضوع الجينات اليهودية بدم الزعيم النازي الذي أبادهم، أن هتلر كان له ابن شقيق يدعى وليام باتريك.
في عام 1936 راودت وليام رغبة بابتزاز عمه من خلال الترويج لمعلومة غير شائعة عن أصول نصف يهودية للعائلة.
وعندما وصل الخبر لهتلر أوكل الموضوع لمحاميه الخاص، هانز فرانك الذي تقصّى الموضوع وظل يتكتم عليه حتى عام 1953، فقد نشر في مذكراته أنه اكتشف أن جد هتلر كان يعيش في النمسا.. وهناك اتصل بخادمة يهودية اسمها ماريا أنجبت منه والد هتلر.. ولأن مرجعية البنوّة عند اليهود هي للأم، لذلك أصبح والد هتلر يهوديا، فيما يعتبر ابنه (من غير اليهودية) ربع يهودي.
هذه الرواية ظلت خاضعة للجدل والتشكيك الى أن تولاها عام 2010 صحفي بلجيكي يدعى جان بول مولدرز، تعاون مع المؤرخ مارك فيرميرين في بحث استقصائي عن نسب هتلر وجيناته العائلية.
منديل الكسندر
في البحث جرى تعقّب أقارب هتلر وأحدهم ابن أخيه ألكسندر الذي كان يعيش في نيويورك، فيما الثاني ابن عمه، نوربرت، كان يعيش في النمسا.
الأول، وفي أعقاب سبعة أيام من محاولة الحصول على أي شيء منه ليصار إلى تحليله جينيا، أسقط منديلا جرى التقاطه وكان مفتاح الكشف عن تفاصيل تحولت الى ما وُصف بأنه التوثيق الجيني الذي نشرته مجلة ”كناك“ الصادرة باللغة الفلمنكية، وعممته بالإنجليزية صحيفة ديلي ميل البريطانية، ونشرته بعدها صحيفتا جيروزاليم بوست وهارتس العبريتان.
يعني أن موضوع الدم اليهودي عند هتلر ليس جديدا ولا مفاجئا، فقد أجريت على المحرزات التي جرى تجميعها من أقارب هتلر، اختبارات للكشف عما تسمى ”مجموعة هابلو غروب“ المعروفة باسم E1bIb، للأقارب الأكثر هيمنة جينيا، حيث أظهرت أن جميع الأحفاد البيولوجية لنفس الأجداد الذكور لهتلر، يحملون العلامة الكروموسومية y النادرة في أوروبا والشائعة بين سكان شمال أفريقيا والمعروفة أنها إحدى السلالات التأسيسية لليهود.
فك هتلر
ورقة الجوكر الروسية في هذه القصة الشائعة عن جينات هتلر، تمثلت في أن الاتحاد السوفيتي يحتفظ في أرشيفه منذ عام 1948 بجزء من عظم الفك وقطعة قماش مبللة بالدم تم الاستيلاء عليها من مخبأ في برلين قيل إن هتلر انتحر فيه.
ورغم تشكيك العلماء الأمريكيين بهذه المحرزات، إلا أن الروس يؤكدون على أصالتها، وربما ينتظرون مناسبة أخرى غير التي تحدث بها وزير خارجيتهم يوم الأحد قبل الماضي ليستخدموا فيها نتائج تحليلات الشفرة الجينية لعظام فك هتلر.
الشاهد في كل هذه الحيثيات الصغيرة، هو أن الحروب الجديدة ومعاركها الفرعية بما فيها الإعلام وإمكانية تزييفه، تتم في جزء أساسي منها بالذكاء الصناعي الذي يجعل موضوع الشيفرة الجينية سلاحاً جارحاً، وبعمق، للسرديات المتوارثة.
فقد أظهرت الفحوص الجينية الأخيرة، حقائق علمية كسرت سرديات طالما كانت تمجّد بالتاريخ الإمبراطوري البريطاني، وتزهو بتجربة تأسيس وبناء الولايات المتحدة، عرضت للسردية اليهودية وألغت معظمها، كما لم تُغفل الشفرات الجينية لمنطقة شرق المتوسط بما فيها الشعوب التركية والفارسية والعربية، حيث أظهرت مستخلصات في الأصول والطبائع والاشواق السياسية للدول والشعوب، إذا وجدت من يتفّرغ لها ويوظفها (كما حصل مع جينات الفوهرر) فإنه ربما لن يجد في المنطقة من ينشرها لأن معظمها تطاله قوانين الرقابة والجزاء.