لو الأماكن تتكلم! خديجة حمودة إعلامية وكاتبه صحفية
عندما تغزّل الشاعر نزار قبانى فى وطنه وأرضه عشقاً وحباً وشوقاً وألماً من البعاد قال: «ماذا سأكتب عنكِ فى كتب الهوى فهواكِ لا يكفيه ألف كتاب» .
وإذا كنت من المبدعين الغارقين فى مشاعر تنطق وتتحدث وتحكى عن كل ما يدور من أحداث حولها، خاصة إذا اقتربت أو لمست أحبتها، سواء كانوا أشخاصاً أو رموزاً أو كيانات مادية تتكوّن منها حياتها وماضيها وذكرياتها، فستعرف دون شك معنى ومغزى حديث الأماكن.
ويبدو من التجارب حولنا التى خضناها، وما زلنا نخوضها ونعيشها، أن الوطن ليس أرضاً وعلماً وعرضاً فقط، بل هو كالأماكن التى عشنا ونعيش داخلها وتجولنا وتعلمنا وأحببنا وصادقنا وتعارفنا وتعاركنا وتصالحنا فيها.
وقد حاولت أن أبحث داخل قلبى وبين حجراته وثناياه وبين أوراق حياتى ودفاتر ذكرياتى وشهاداتى الدراسية وصور إنهاء مراحل التعليم واحتفالاتها وأعياد الميلاد واللقاءات العائلية وتجمعات الأصدقاء وقصاصات أوراق الأحبة والورود المجففة وسط صفحات الكتب وزجاجات العطر الفارغة وأوراق الهدايا اللامعة الملونة عن الابتسامات والهمزات ونظرات العيون ومعانيها.
فأدركت أن لكل مكان وطئته قدماى ذكرى وحكاية ووجوه لا تُنسى وبصمة لا تتشابه مع غيرها، كما لو كانت بصمة إنسانية، وأدركت بعد أن تراكمت وتجمعت واختلطت تلك البصمات وأصبحت خريطة جغرافية دقيقة الخطوط زاهية الألوان واضحة الاتجاهات يستطيع أى باحث جغرافى أن يترجمها ويظللها طبقاً لأهمية كل موقع وقربه من القلب والعقل – أدركت – أنه إذا تجمعت هذه الذكريات فستحكى أجمل حكاية فى العمر كله كما قالت أم كلثوم وهى تغنى للأيام والأحباب والقمر والليل وأطلال الأماكن.
ففى ذلك الطريق القصير القريب من جذورنا وبيتنا الكبير الذى طالما احتضن الأقدام الصغيرة وسمع صدى خطواتها وعدوها وتعثرها، كانت هناك نافذة لا ينطفئ ضوؤها ولا تختفى منها أصوات ضحكات سعيدة متفائلة.
ومنها انطلقت أول إشارة بأن هناك فى الطريق قصة تنمو وستصل بأصحابها إلى تحقيق الأحلام الخضراء الناعمة الحالمة، وعندما ابتعدت الخطوات قليلاً واخترقت العالم الأشد صخباً والأكثر أحداثاً والملىء بالوجوه والتعبيرات والانفعالات والتجارب، ظهرت أماكن جديدة تلوّنت واستقبلتنا بالترحاب والكلمات ورسمنا على جدرانها قلوباً صغيرة تخترقها أسهم وحولها حروف تهمس بالأسماء وتخفيها عن العيون .
وبعدها كانت هناك مبانٍ عاشت داخلنا وأخذت من سنوات عمرنا الكثير وتعلّمنا فيها وعلى مقاعدها كيف تسير بنا الحياة وكيف يمكن أن نقودها فى فترات ونبعدها عما نكره ونغير اتجاهاتها فى محاولات البحث عن النجاح والسعادة.
وبرغم سنوات البعاد ما زالت ذكراها تهاجمنا ويعلو صوتها عندما تحكى وتصف ما فعلنا وما عشناه فيها وما زالت صورها واضحة تدفع بالدماء داخل أجسادنا بغزارة وحرارة تظهر على الوجوه والعيون، فنعيش لحظات مع كلمات الشعراء وموسيقى الملحنين وأصوات المطربين وهى تحكى وتصف وتدندن بكلمات الأماكن، الصادقة الفاضحة الممتعة التى تتحول إلى أشخاص يجلسون على مدخل التاريخ ويمسكون بالورقة والقلم ليسجلوا ويكتبوا حكايات الأماكن. ويخلّدون قصائد مَن ذابوا فيها، فقالوا: «لا تنكرى وجهى فأنت حبيبتى وورود مائدتى وكأس شرابى».