عادت ظاهرة توظيف الأموال لتطل علينا من جديد بعد الأحداث الدامية التى شهدتها محافظة أسوان وبعض المدن المجاورة لها،ويمكننا القول أن هذه الظاهرة تنتشر فى معظم قرى ونجوع المجتمع وأصبحت سمة مميزة من سماته، فبين فترة وأخرى تظهر على السطح احدى قضايا توظيف الأموال وتحتل مساحات واسعة فى النقاش والحوار المجتمعى وتنشغل بها وسائل الاعلام المختلفة، حتى يتم القبض على القائمين عليها، لتتوارى جانبا
وتعود للظهور مرة أخرى بعد فترة ليست بالبعيدة، لنفس الأسباب وبنفس الأسلوب والطريقة، مع اختلاف أسماء الضحايا فقط، وهكذا ندور فى حلقة مفرغة منذ عدة عقود، وليس سنوات وبالتالى فمن الخطأ أن نظن أن هذه الظاهرة سوف تزول بمجرد القبض على الأشخاص ومحاكمتهم، رغم ضرورات وأهمية ذلك، فإنها لن تكون سوى رادع وقتى لا يلبث أن يزول أثره بمرور الوقت.
وبالتالى يجب اجتثاث الظاهرة من جذورها عن طريق إزالة أسباب الإنتشار. إذ تأخذ أشكالا عديدة ومتنوعة، بل والأهم من ذلك أنها تشمل جميع شرائح المجتمع، ولا تقتصر فقط على الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى كما يتصور البعض، وليس أدل على ذلك من القضايا العديدة التى تثار بين الحين والآخر والمتعلقة بملايين الدولارات التى تم تجميعها من الشرائح العليا فى المجتمع.
فالبعض يدخل فى هذه العملية بدافع استغلال مدخراته والمشاركة فى التجارة فى سلعة ما أو فى تقديم خدمة معينة للجمهور وغيرها من الأمور الإستثمارية، مقابل الحصول على عائد مجز يمكنه من مواجهة سبل العيش والحياة.
وللأسف الشديد فقد اقتصر التعامل معها على الأداة القانونية حيث صدر قانون تنظيم تلقى الأموال رقم 146 لسنة 1988 محاولا تنظيم هذه العملية، وجرم قانون البنك المركزى والجهاز المصرفى قيام الأفراد بتلقى الأموال من الغير. الخ. وكلها أمور لم تنجح حتى فى الحد من الظاهرة، وذلك لأنها لم تحاول معالجة الأسباب الرئيسية وبالتالى وضع رؤية شاملة للعلاج من مختلف الزوايا.
معدل الاكتناز
وهناك العديد من الأسباب وراء ذلك يأتى على رأسها ارتفاع معدل الإكتناز بالمجتمع والذى ظهر جليا فى الأموال التى استثمرت فى شهادات قناة السويس وفى الشهادات ذات العائد 18% وغيرهما الكثير.
يضاف إلى ذلك إرتفاع تكاليف التعامل مع الجهاز المصرفي، وإرتفاع قيمة الرسوم والمصروفات الإدارية والعمولات. فضلا عن عدم نجاحه فى تقديم الخدمات المصرفية المطلوبة فى الريف والقري، ولا الوجود بالقرب منهم وفى أماكن يسهل الوصول إليها.
فرغم توسع البنوك فى إنشاء العديد من الفروع فإنها تعانى مشكلة التركز، إما فى القاهرة الكبرى أو بعض المحافظات الحضرية وفى مدن هذه المحافظات ولم تحقق الإنتشار المصرفى المطلوب فى جميع مدن وقرى مصر.
إنتشار وتركز فروع البنوك
(تستحوذ القاهرة على نحو 33% من الفروع بينما عدد سكانها يمثلون 10.5% من إجمالى السكان، وكذلك الإسكندرية تستحوذ على 10% من الفروع مقابل 5.4% من السكان، والجيزة 14% من الفروع مقابل 8.6% من السكان وعلى النقيض من ذلك تستحوذ محافظة قنا على 1.7% من الفروع بينما يسكن بها نحو3.5% من السكان ونفس القول على سوهاج والتى يوجد بها 2.2 % من الفروع مقابل 5.3% من السكان والبحيرة 2.2% من الفروع مقابل 6.6% من السكان).
وينطبق نفس القول على ماكينات الدفع الآلى حيث استحوذت القاهرة على 35.5 % والجيزة على 12.4% والإسكندرية 9.5% وبالتالى مازالت البنوك غير قادرة على خدمة المواطنين العاديين والفلاح البسيط، ولم تقم إلا بمبادرات محدودة للغاية لإجتذاب هذه الأموال
كيانات للاستثمار
كما لم تتمكن الحكومات المتعاقبة من إيجاد كيانات استثمارية مناسبة تتمكن من جذب هذه الأموال، فرغم الحديث حول تشجيع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، فإنها لم تتحول بعد إلى سياسات محددة، رغم صدور القانون رقم 152 لسنة 2020 بشأن المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، خاصة فيما يتعلق بالمزايا الضريبية والجمركية، وكذلك قانون تنظيم وتشجيع عمل وحدات الطعام المتنقلة رقم 92 لسنة 2018.كما انها، وهذا هو الأهم، لم تتجه إلى هذه المناطق ومازالت جميع السياسات والإجراءات المطبقة حتى الآن تركز على القاهرة الكبرى وبعض المدن الأخرى.
الأمر الذى يتطلب التوسع فى الشمول المالى أى إتاحة وإستخدام جميع الخدمات المالية لمختلف فئات المجتمع من خلال القنوات الرسمية بما فى ذلك الحسابات المصرفية والتوفير وخدمات الدفع والتحويل وخدمات التأمين والائتمان، وتفادى لجوء البعض إلى القنوات والوسائل غير الرسمية التى لا تخضع لحد أدنى من الرقابة والإشراف مما يؤدى إلى سوء إستغلال احتياجات هؤلاء من الخدمات المالية والمصرفية.
وهكذا يجب السعى إلى توسيع نطاق العمل المصرفى ليشمل كل الفئات والسكان مثل سكان الريف والفقراء والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر ودمج القطاع غير الرسمى فى الإقتصاد الرسمي.وبالتالى فتح الباب أمام الشرائح الدنيا لإستخدام الخدمات المالية. رغم الإجراءات العديدة التى يقوم بها الجهاز المصرفي، فإن الطريق مازال طويلا وشاقا لتحويل المجتمع إلى التعاملات المصرفية .
مسؤوليات الجهاز المصرفي
ويحتاج إلى تضافر الجهود بغية تغيير العادات السائدة وكذلك قيام البنوك بتوسيع دائرة الإهتمام لتشمل مختلف قرى ومدن مصر مع إزالة العقبات أمام تسهيل المعاملات، وعلى الحكومة العمل على إصدار التشريعات التى تحول دون انتشار المعاملات النقودية وتؤدى إلى تعزيز المعاملات المصرفية، مما يساعد على تعزيز الثقة فى الجهاز المصرفي.
وهو ما يتطلب التوسع فى انشاء شبكة من مزودى الخدمات المالية بما فى ذلك فروع البنوك وشركات الصرافة ومكاتب البريد بجانب زيادة عدد ماكينات الصرف الآلي، على أن تمتد لتشمل المناطق الجغرافية المحرومة خاصة فى الريف المصري. والتوسع فى الخدمات المالية الرقمية المقدمة عبر الهاتف المحمول والشبكة الإلكترونية.