تتابع أطراف عديدة قضية التشغيل أهمها: متخذ القرار والأسرة المصرية ومؤسسات التعليم والفكر ورجال الدين والسياسة ورجال الأعمال وقبل كل ذلك الشاب أو الفتاة التي أكملت تعليمها وتبحث عن فرصة عمل ،
كما أنها قضية الأجل القصير التي يبحث الجميع عن ايجاد حل لها بما يؤدي الي حسن استغلال طاقات المجتمع والعمل علي توازن مصر محليًا ودوليًا في ظل محاولات حثيثة لتشكيل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
ونشير الي بيانات التشغيل أو سوق العمل في مصر خلال ال ٦٢ عامًا الأخيرة ، قد اشتمل علي ستة مراحل:-
1. مرحلة الستينيات: تمثل اقتصاد الوفرة في الأيدي العاملة وزيادة معدلات التشغيل عن طريق التوسع في التوظيف الحكومي وبداية الطفرة في التصنيع عن طريق الإحلال محل الواردات، واتسمت تلك الفترة بانخفاض معدل البطالة ما بين 2-3%، ولكن كانت هناك مشكلة البطالة المقنعة وخاصة في قطاع الزراعة والقطاع غير الرسمي.
2. مرحلة 1970– 1985 : شهدت انتصار مصر في حرب أكتوبر ٧٣ المجيدة ثم ظهور البطالة الظاهرة نتيجة تطبيق سياسة “الانفتاح الاقتصادي” وبلغ معدل النمو 8% سنويًّا في المتوسط مدفوعًا بتدفق عائدات قناة السويس، وصادرات النفط، والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج ، لكن أصبحت مشكلة البطالة أكثر تعقيدًا نظرًا لتراجع المصادر التقليدية للطلب على العمالة في القطاع العام والحكومي وقطاع الزراعة، ولم يعوض هذا التراجع التشغيل الحادث في قطاعي التشييد والخدمات ، أو السفر للدول النفطية وتراوحت تقديرات البطالة ما بين 10-13%.
3. مرحلة 1986 – 1995 : تمثل تباطؤ معدلات النمو مع زيادة معدلات البطالة، حيث شهدت تلك الفترة تقلص الموارد الخارجية خاصة بعد حرب الخليج الأولي وتراجع معدل النمو مابين 2.5- 3% سنويًا ومعدل نمو دخل الفرد تحت الصفر. وبلغ معدل البطالة 10% وظل يتراوح حول هذا المعدل حتى عام1993 ( مركز معلومات رئاسة الوزراء) وأيضا بسبب سياسة الاصلاح المالي الذي تبنته الحكومة.
4. مرحلة 1995 – 2010: شهدت تزايد النمو مع تزايد البطالة، وإعفاء مصر من ٥٠٪ من الديون الخارجية، وازدهرت السياحة وازدادت عائدات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج، وارتفاع معدلات النمو الي 7.2% في عام 2008 ولكن ارتفع أيضًا معدل البطالة وتراوح مابين 8-11% خلال تلك الفترة. وتم وصف تلك المرحلة بفترة النمو منخفضة التشغيل “Jobless Growth” لأن النمو المرتفع لم ينعكس على أداء أسواق العمل ،
وأصبح القطاع غير الرسمي يستوعب 35% من إجمالي التشغيل ، وزادت هجرة الشباب المصري تاريخيا وجغرافيًا وظهر بوضوح تأثير الجماعات الدينية علي المجتمع المصري ثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيا وتركت الدولة الساحة لهم باستثناءات معينة.
5- مرحلة 2011- 2020 : تراجع معدل النمو الحقيقي إلى 1.8% في عام 2011 في ظل ثورات الربيع العربي وظل أقل من معدل نمو السكان حتى ثوره يونيو 2013 ثم أخذ النمو بالتعافي عام 2015 وسجل 4.4%، وحقق ارتفاعًا عام 2018 بلغ 5.3% وفي عام 2019 سجل 5.6%، ولكنة تراجع إلى 3.6% في 2020 بسبب جائحة كورونا. وارتفع معدل البطالة إلى 12% و13% في السنوات من 2011 حتى 2017 ثم تراجع إلى 9.6% في عام 2020.
ويلاحظ أن مشكلة البطالة هي في الأساس بطالة الشباب، ووفقًا لبيانات 2020، فإن المتعطلين في الفئة العمرية (19-25) يمثلون 66% من إجمالي العاطلين.
6- مرحلة 2020 حتي الآن : تعتبر هذه المرحلة من أهم المراحل علي الرغم من قصر فترتها حيث التوسع في المشروعات القومية ( تشغيل حوالي خمسة مليون فرد) وبدء ظهور آثارها وتبني الدولة أيضا سياسات المدي القصير مثل برنامج تكافل وكرامة الذي بلغت تكلفته حوالي 800 مليار جنيه ومن المنتظر أن تصل الي تريليون جنيه مع نهاية العام ،
الا أن الصراع الروسي الأوكراني الذي بدأ في 24 فبراير 2022 قد أثر بالسلب علي الاقتصاد العالمي وتسبب في زيادة التضخم وحدوث ركود تضخمي وشح في الغذاء ومشاكل في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية وانكماش نسبي للقطاع الخاص في ظل ظروف عدم اليقين حول موعد انتهاء الصراع ، وتعتبر مصر من الدول الأقل تأثرا بالصراع الروسي الأوكراني وربما حققت مكاسب في نواحي متعددة إلا أنه يصعب تقدير الأثر النهائي للصراع علي اقتصاد مصر في المرحلة الراهنة.
وفي هذا السياق ، حذرت منظمة العمل الدولية من تفاقم البطالة (900 مليون في العالم) وأن عدم المساواة والعدالة قد أديا إلى إذكاء عدم الاستقرار الاجتماعي، وتشير البيانات المقارنة أن الدول العربية كان لها النصيب الأكبر في الاضطرابات الاجتماعية خلال العقد الماضي، ويعود ذلك لتردي الأوضاع الاقتصادية وفى مقدمتها الفقر والبطالة مما أدي لفوران ثورات الربيع العربي وهنا تبرز أهمية التشغيل اقتصاديًا واجتماعيًا في استقرار المجتمع.
هذا ، وبعد استعراض تطور التشغيل كيف يمكن الاستجابة للتحديات التي تطرحها الثورة الصناعية الرابعة والتحولات والمشاكل الخارجية وآخرها جائحة كورونا وتوابعها والصراع الروسي الغربي وبزوغ محددات نظام عالمي جديد متعدد الأطراف ؟
قد تكون الإجابة ، ضمن عناصر أخري ، هي تلبية متطلبات الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة 2030، بتعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، وتحقيق العمالة الكاملة ( التشغيل الكامل للموارد البشرية) وتوفير العمل اللائق للجميع واللحاق والمرونة في مواكبة تحولات العالم الجديد ومحدداته التي تختلف عن السابق .
وختامًا ، فان قضية التشغيل كان لها أثر ايجابي علي مصر في مرحلة الستينات اقتصاديًا واجتماعيًا حيث توجه الشباب للعمل الحكومي والعمل في المصانع المنشأة حديثًا والتي بلغ عددها ١٢٠٠ مصنع ومنشأة وتحسنت معدلات الدخول وأيضا هجر الشباب التيارات المتشددة سواء العلمانية أو الدينية. و نتعشم أن سياسات تشجيع القطاع الخاص وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في مصر واستكمال الدولة للمشروعات القومية سوف تساهم في التوازن المجتمعي حاضرًا ومستقبلا ،
خاصة مع بدء ظهور ملامح نظام عالمي جديد متعدد الاقطاب وتوقعات أن يحتل الاقتصاد المصري المرتبة السادسة عالميًا مع حلول عام ٢٠٣٠ ومحاولات الدولة إدماج الاقتصاد غير الرسمي في الاقتصاد الرسمي والشمول المالي والرقمنه والحوكمة ، أن يؤدي كل ذلك لزيادة معدلات التشغيل والدخول وأن تشارك مصر في حلبة المنافسة الدولية والثوره الصناعية الرابعة حتي تتبوأ مصر المكانة اللائقة في عالم لا مكان فيه للضعيف . ————-//———- الوزير المفوض والمفكر الاقتصادي / منجي علي بدر تحريرا في 12يونيو 2022