بودابست- د. سامي عمارة
مع كل يوم جديد ومنذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا”غربية التمويل والتوجهات”، يواصل فيكتور اوربان رئيس الحكومة المجرية مسيرته على حد السيف، متميزا عن اقرانه من رؤساء بلدان الاتحاد الأوروبي والناتو، بوجهات نظر متفردة، تكشف عن شرخ عميق داخل بلدان التحالفين الغربيين.. المدني والعسكري.
ورغم كل ما تهدد ويتهدد بلاده من إنذارات وعقوبات، يواصل اوربان تحديه لما تطرحه الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي من مقررات وعقوبات ضد روسيا، ما يضعه وبلاده في مواجهة حادة مع بلدان كل من الناتو والاتحاد الأوروبي، وإن جانبه التوفيق والحصافة في آخر تصريحاته التي تناول فيها دور الحضارة الإسلامية وقيمتها ماضيا وحاضرا، فضلا عما قاله بشأن “نقاء الجنس المجري”!.
وها هو أوربان يواصل جهوده من اجل تصحيح مسارات وسياسات الاتحاد الأوروبي والناتو تجاه الحرب في أوكرانيا، فضلا عما سبق واعلنه من مواقف تجاه ما فقدته بلاده من اراضٍ منذ سنوات الحرب العالمية الاولي وانهيار امبراطورية النمسا – المجر.
ويذكر المراقبون ما سبق واعلنه اعتراضا على مقررات الاتحاد الأوروبي حول “حصحصة الهجرة غير الشرعية” التي داهمت بلاده في اعقاب انفجار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط في عام 2015، وما تلا ذلك من رفضه لقبول بلاده بتغيير المقررات الدراسية، والاعتراف بالمثلية الجنسية، واعلاء قوانين الاتحاد الأوروبي على القوانين الوطنية.
ولعل ما اوجزه فيكتور اوربان في خطابه الأخير الذي القاه خلال الأيام القليلة الماضية بين جموع أبناء المجر في منطقة ترانسيلفانيا المجرية الأصل، ممن يواصلون سكناهم في أراضيهم التي جرى ضمها الى رومانيا، بموجب معاهدة تريانون في عام 1920 ، يكشف عن إصرار شديد يكاد يلامس ما كشف عنه “صديقه” فلاديمير بوتين في ذكرى ميلاد بطرس الأول قيصر روسيا العظيم، من طموحات قومية، وإصرار على اعلاء مصالح بلاده، واستعادة ما سبق وفقدته في ذلك الزمان “غير الجميل”.
ولعل ذلك ما قد يفسر تسمية بعض المراقبين لأوربان تارة بانه “صديق بوتين”، وتارة أخرى بانه “بوتين المجري”، فيما يصفه خصومه تارة بانه “دكتاتور”، وأخرى بانه “عدو الأقليات المثلية”، و”فزًاعة الاوروبيين” تارة ثالثة. وذلك في الوقت الذي يقول مراقبون فيه “أن أوربان البالغ من العمر 59 عامًا سيبقى بلا شك أحد أقوى القيادات في تاريخ المجر واوروبا، على الرغم من أنه لم يدّعِ أبدًا نفوذه الأوروبي – لأنه يفهم حجم بلاده داخل أوروبا”، الى جانب ما يتمتع به من شعبية بين اليمين الأوروبي والتقليديين – في فرنسا وإيطاليا ، على سبيل المثال”.
مسيرة أوربان
ولعل استعراض مسيرة اوربان عبر مراحل مختلفة قبل استقراره على رأس السلطة التنفيذية في المجر منذ عام 2010، يمكن ان يكشف ابعاد سياساته وتوجهاته التي لطالما استوعبت دروس التاريخ، وضرورة مراعاة متغيرات العصر. وقف اوربان متفردا بسيتساته الرافضة للهجرة غير الشرعية.
اقام الجدار العازل مع عدد من البلدان المجاورة، وإن كان اتخذ موقفا مغايرا تجاه المهاجرين الاوكرانيين ممن ذهب اليهم لاستقبالهم والترحيب بهم عند حدود بلاده. مضى الى ما هو ابعد بتأكيده على اعلاء القوانين الوطنية على مقررات وقوانين الاتحاد الأوروبي.
واجه ما اتخذه الاتحاد الاوروبي من “إجراءات تأديبية” ضد المجر، ومنها قيود سحب تمويل الاتحاد الأوروبي. وذلك فضلا عما يواجهه من آن لآخر من تظاهرات احتجاجية”، تعيد الى الاذهان سيناريو الثورات الملونة في الفضاء السوفييتي السابق، وعدد من بلدان الشرق الاوسط، فضلا عما يتواصل من انتقادات شديدة من جانب نشطاء حقوق الإنسان بسبب موقفه تجاه مجتمع المثليين، وما اتخذه من قرارات واقره من قوانين في مواجهة مثل هذه التوجهات.
يواصل اوربان مسيرته عبر ادغال المواجهات بين الغرب وروسيا، يبذل قصاري جهده من اجل الخروج ببلاده الى بر الامان بعيدا عن مخاطر تصاعد هذه المواجهات. ومن هذا المنظور يقف اوربان داعيا إلى استراتيجية جديدة للاتحاد الأوروبي بشأن الحرب في أوكرانيا، تعتمد المباحثات مع روسيا سبيلا الى وقف الحرب والتحول نحو التسوية السلمية.
أكد فيكتور أوربان ولا يزال، عدم جدوى سياسة العقوبات. وللمزيد من التوضيح والايضاح مضى رئيس الحكومة المجرية ليصارح نظراءه من رؤساء الدول والحكومات الغربية، بعدم صحة تجاهل ما طرحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عشية الحرب، من مطالب امنية.
عاد اوربان ليقول في كلمته التي ألقاها في بلدة بايلي توسناد الرومانية ان الروس طرحوا مطلبًا أمنيًا واضحًا للغاية بعدم انضمام أوكرانيا إلى عضوية الناتو، وعدم نشر أسلحة يمكنها الوصول إلى روسيا. لكن الغرب رفضه. ولم يرغب حتى في مناقشته. قال ان هذه الحرب لم تكن لتندلع ابدا، لو كان موجودا الرئيس الأمريكي ترامب والمستشارة الألمانية ميركل”، في تلميح يغني عن التصريح الى حالة الهزال التي تعتري القيادات الغربية سواء في الولايات المتحدة او المانيا او غيرهما من القيادات الاوروبية.
اما عن النتائج فقد اوجزها باقتضاب بقوله: “نحن نجلس في سيارة ثُقِبَت إطاراتها الأربعة”. ودعا رئيس الوزراء المجري إلى البحث عن استراتيجية جديدة للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا. واذ اشار الى أن الجيش الروسي “لديه من التفوق ما يجعله في وضع غير متكافئ” مع خصومه، تحول اوربان ليحذر من مغبة اخطار ركود اقتصادي يهيمن على أوروبا بأكملها، مما يشكل أيضًا خطرًا على الاقتصاد المجري. وفي هذا الصدد ، أشار إلى توقعات المحللين بأن نمو الناتج المحلي الإجمالي في العام المقبل سيتباطأ إلى حوالي 2.5 في المائة، مؤكدا على ضرورة التوصل إلى اتفاق جديد مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعرب عن امله في التوصل الى مثل هذا الاتفاق.
إستراتيجية جديدة لأوروبا
ويمضى اوربان وفريقه من ممثلي الائتلاف الحاكم في المجر، على طريق رفض الانصياع للكثير من مقررات حلف الناتو وعقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا. لم يقبل اوربان نشر اية أسلحة استراتيجية في أراضي بلاده، فضلا عن اعتراضه لعبور اية أسلحة او معدات عسكرية الى أوكرانيا عبر الأراضي المجرية.
قال باستحالة قبول الانضمام الى مقاطعة استيراد النفط والغاز من روسيا، في محاولة لاستباق مواجهة اخطار نقص الطاقة. عارض اقتراح المفوضية الأوروبية لخفض استهلاك الغاز بنسبة 15 بالمائة في دول الاتحاد الأوروبي، واوفد وزير خارجيته وشريكه الرئيس في الائتلاف الحاكم بيتر سيارتو وزير الخارجية والتجارة الى روسيا طلبا للمزيد، اضافة لما جرى الاتفاق عليه من كميات خلال زيارته لروسيا وباسعار اقل كثيراً عن الأسعار العالمية.
وذلك ما تحقق في اطار ما كشف عنه سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسية بقوله “إن روسيا والمجر تكثفان التعاون الاقتصادي رغم ضغوط العقوبات، وصعوبة الوضع الدولي”. أضاف لافروف ان التفاعل بين البلدين مستمر، وانهما تمكنا العام الماضي من تجاوز الركود الناجم عن وباء “كورونا”، وتحقيق نمو بأكثر من 25٪ من التجارة بين البلدين. قال: “نلاحظ الالتزام المتبادل بين القيادتين الروسية والمجرية لبلدينا لتعزيز تفاعلهما وشراكتهما ، بما في ذلك تنفيذ المشاريع المشتركة الكبرى في مجالات الطاقة والنقل وغيرها من المجالات”.
وذلك كله ما كان موضع انتقادات من جانب كثيرين وفي مقدمتهم وزارة الخارجية الأوكرانية التي اتهمت أوربان بالانزلاق الى شرك ما وصفه بـ”الدعاية الروسية“، بترديده لعبارات على غرار ان “العقوبات لم تهز روسيا”.
وكان اوربان قال ما نصه:” ان العقوبات لم تهز موسكو. من الواضح تمامًا أن الغرب لن يربح هذا الصراع بهذه الطريقة. أوروبا في ورطة – اقتصادية وسياسية ، أربع حكومات ضحية: بريطانية وبلغارية وإيطالية وإستونية. سيواجه الناس زيادة حادة في الأسعار. لم يدعمنا معظم العالم .
الصين والهند والبرازيل وأفريقيا والعالم العربي كلهم بمعزل عن هذا الصراع ، إنهم يفعلون ما يريدون“. ومضى اوربان ليضيف انه “من الواضح تماما أنه لا يمكن كسب الحرب بهذه الطريقة. حسنًا ، الأوكرانيون الذين تلقوا تدريبًا وضباطًا وأسلحة أمريكية لن ينتصروا أبدًا في حرب مع روسيا. ببساطة لأن الجيش الروسي يتفوق لكونه في وضع غير متكافئ مع خصومه. لن تكسبوا الحروب ضد الروس “.
الفرص الضائعة
دعا الزعيم المجرى إلى استراتيجية جديدة للاتحاد الأوروبي في الصراع الأوكراني. أعاد الى الاذهان بعضا من حلقات سلسلة الفرص الضائعة . قال “ان الأوروبيين لا يمكن أن يكونوا وسطاء في هذا لأنهم أضاعوا فرصتهم. بعد شبه جزيرة القرم في عام 2014 ، كانت هناك اتفاقيات مينسك بضمانات من فرنسا وألمانيا ، لكن للأسف ، لم يتمكّنوا من ضمان تنفيذها. ولم يعد الروس يريدون التفاوض معنا “.
استعاد رئيس الحكومة المجرية ما سبق وقاله الرئيس الروسي في اكثر من مناسبة حول ان “أوروبا فقدت استقلالها الجيوسياسي ، وأصبحت أداة في أيدي الأنجلو ساكسون ، وليست قادرة حتى على الدفاع عن مصالحها. لذلك ، لا يمكننا الوثوق بها فحسب ، بل أيضًا إبرام أي اتفاقيات استراتيجية معها”.
وتوقع اوربان أن تضع هذه الحرب حدًا للهيمنة الغربية، وبدء التحول نحو بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب، مؤكدا ان الوقت قد حان لتستعيد أوروبا مقاليد امورها، ولان يكون لها رأيها فيما يتعلق بالقضايا الأمنية الإقليمية والعالمية. وخلص الى القول :”ان أوروبا أضاعت فرصة التوسط في النزاع الأوكراني، وان الحوار الروسي الأوروبي لن يُستأنف إلا عندما تستعيد أوروبا استقلالها ، نسبيًا على الأقل“.
وذلك يعني ضمنا ما صار يحظى بما يشبه الاجماع حول الحاجة الى نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، نجح الرئيس بوتين في طرح اطره واستراتيجيته بما سبق وقاله في تقريره التاريخي الذي القاه في مؤتمر الامن الأوروبي في ميونيخ في فبراير 2007، حول ضرورة التخلي عن منظومة عالم القطب الواحد” والتحول نحو بناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.
أوروبا النقية
وعلى الرغم من اتفاق الكثيرين تجاه ما قاله اوربان بشأن الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تواجهها بلاده والقارة الأوروبية، وقف أيضا آخرون كثيرون ضد حديثه حول “نقاء الجنس المجري”، وعدم تقديره للحضارة الإسلامية” ورفضه لاختلاط الاعراق. انتقد هؤلاء ما قاله اوربان حول “ان شعوب أوروبا يمكنها وتريد الاختلاط مع بعضها البعض ، لكن لا ينبغي أن تختلط مع غير الأوروبيين”.