عبد الفتـــــاح الجبـــالـى
يطرح قرار رئيس مجلس الوزراء الصادر أخيرا، والذي يتضمن نقل إدارة ومتابعة جميع المبادرات القائمة ذات العائد المنخفض عن أسعار السوق، من البنك المركزي إلى وزارة المالية، العديد من التساؤلات المهمة على رأسها إلى أى مدى سيؤثر هذا القرار على تحقيق الأهداف المنوطة بهذه المبادرات؟ وماعلاقة ذلك بصنع السياسة النقدية؟ وهل ستتأثر الخزانة العامة بهذه المسألة أم لا؟.
وجدير بالذكر أن البنك المركزي كان قد أصدر، خلال الفترة 2019/2021، العديد من المبادرات لدعم بعض القطاعات الإقتصادية المتضررة من فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وذلك بتخصيص مبالغ معينة بأسعار فائدة مميزة عن الإئتمان الممنوح لها،حيث خصص مائة مليار جنيه للقطاع الخاص الصناعي والزراعي وقطاع المقاولات بسعر عائد سنوي 8%، وكذلك السياحة (بسعر عائد متناقص 8%) ونحو 50 مليارا لمبادرة التمويل العقاري لمتوسطي الدخل، وأيضا الشركات الصغيرة والمتوسطة بعائد 5% وغيرها من المبادرات. مع ملاحظة انها مبادرات مؤقتة ولفترة زمنية محددة، كما أن معظمها بضمانات مالية من وزارة المالية.
الأمر الذي أدى إلى تعدد أسعار الفائدة وتشتتها بصورة كبيرة. ناهيك عن التباينات الشديدة فى أسعار الفائدة بين البنوك وبعضها البعض. فضلا بالطبع عن تباين أسعار الفائدة داخل القطاع الواحد بين المنضمين إلى المبادرات وغير المنضمين إليها، وهي مسألة مهمة حيث تؤدى إلى تميز البعض عن البعض الآخر وبالتالي تنتفي أسس المنافسة السعرية.
مخاطر تعدد أسعار الفائدة
إذ أن أخطر ما يصيب سعر الفائدة هو عدم الإنسجام والتناسق فيما بينهم، مما يؤثر بالسلب على صانع السياسة النقدية والذي يتوه بين هذه المعدلات، وهي قضية غاية فى الأهمية والخطورة في ضوء الدور الذي يلعبه سعر الفائدة في المجتمع، حيث يجب أن يعكس النُدرة النسبية لرأس المال ومعدلات التضخم السائدة بالمجتمع، حيث يُمكن تحفيز المدخرات وتشجيع الإستثمار المُنتج. وذلك كله في ضوء السياسة النقدية والإئتمانية الهادفة إلى التحكم في عرض النقود وأداوته، بما يتلاءم مع الأوضاع الإقتصادية المرغوبة، ويضمن التشغيل الكفء للموارد الإقتصادية، واستقرار مستويات الأسعار،درءا للتضخم وحفاظا على قيمة العملة الوطنية.
كما انها تؤدى لزيادة النمو فى الائتمان بشكل سريع وغير متوازن قبل أن تتاح للبنوك القدرة على تقييم القروض وتسعير المخاطر الائتمانية بشكل تفاضلي، وبمعنى آخر فإن هذه البنوك تتجه إلى تلك الأنشطة بالإضافة إلى الأنشطة التي كانت مقيدة من قبل، أى تمويل الطلب الإستهلاكي المكبوت وتشجيع شراء السلع المعمرة والكمالية والدخول فى أنشطة المضاربة كسوق العقارات.
ناهيك عما يترتب على هذه العملية من مشكلات تتعلق بفقدان القدرة على السيطرة النقدية من جانب البنك المركزي.ولذلك دائما ما تنطوي برامج صندوق النقد الدولي على سياسة نقدية تقييدية تقوم على وضع حدود قصوى على معدل التوسع في الائتمان المصرفي لكبح إجمالي الطلب المحلي وإمتصاص فائض السيولة، وبما يسمح بتحسين إستخدام الموارد المتاحة ويسمح بتوفير حصيلة كافية من النقد الأجنبي تساعد على الوفاء بجميع الإلتزامات الخارجية المستحقة علي الدولة.
الخزانة العامة تشيل الهم
وهنا تجدر الإشارة إلى أن المتحمل النهائي لعبء هذه المبادرات هو الخزانة العامة وليس الجهاز المصرفي إذ أن هذه العمليات تؤدى لخسارة البنك المركزي نتيجة لتحمله فروق أسعار الفائدة ومن ثم تتحملها الخزانة العامة في ضوء المادة( 4 ) من قانون البنك المركزي والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، والتي نصت على انه لا يجوز أن تظهر حقوق الملكية بقيمة سالبة، وفى حالة حدوث ذلك، يتعين تغطيتها من الخزانة العامة للدولة خلال تسعين يوما من تاريخ إخطار وزير المالية، وذلك بعد العرض على مجلس الوزراء خلال تلك المدة، وتكون التغطية إما نقدا أو فى صورة أدوات دين قابلة للتداول بأسعار العائد السائد بالسوق.
وبمقتضى هذا القرار سوف تتحمل الجهات المعنية تكلفة تعويض البنوك عن فروق أسعار الفائدة، فمثلا صندوق دعم السياحة هو الذي يتحمل مبادرة دعم السياحة، ووزارة الإسكان تتحمل مبادرات التمويل العقاري، بينما تتحمل وزارة المالية تكاليف مبادرات إحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج وكذلك تشجيع طرق الري الحديثة، الأمر الذي يمكن المجتمع من معرفة التكلفة الحقيقة للإنتاج داخل القطاع المعنى.
وعلى الجانب الآخر فقد انعكس الإتجاه العالمي نحو زيادة الإعتماد على آليات السوق والتحرير الإقتصادي إلى التحول نحو الإعتماد على الأساليب غير المباشرة فى تنفيذ السياسات النقدية التي تقوم أساسا على البعد عن الأوامر المباشرة، مثل السقوف الإئتمانية والتحديد الإداري لسعر الفائدة وأسعار الخدمات المصرفية إلى اعتماد السلطات النقدية على آليات السوق، سواء فى التحكم فى أسعار الفائدة أو العرض النقدي.ومن أكثر الأدوات فاعلية فى هذا الشأن ممارسة عمليات السوق المفتوحة، كما زاد إهتمام البنوك المركزية بدعم المنافسة بين البنوك بهدف زيادة الكفاءة. وكذلك الإهتمام بالتنسيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية.
تحرير العرض والطلب
وانعكست الظروف السابقة على البرنامج المصري فى مجالات السياسة النقدية والقطاع المالي. حيث اتجه البنك المركزي إلى التحول إلى الأساليب غير المباشرة، فألغيت السقوف الائتمانية على القطاع الخاص فى أواخر عام 1992، السقوف الائتمانية على القطاع العام فى أوائل عام 1993. هذا وقد تم تحرير أسعار الفائدة فى يناير 1991، كما توقف البنك المركزي عن تمويل عجز الموازنة وبدأ فى تنظيم مزادات أسبوعية لأذون الخزانة، وبناء على تلك المزادات يتحدد سعر الفائدة وفقا للعرض والطلب، كما تستخدم إما فى تمويل عجز الموازنة أو امتصاص فائض السيولة، حيث تعد ممارسة لعمليات السوق المفتوحة من خلال السوق الأولى ـ كما كان يستخدم سعر الفائدة على الأذون ـ كمؤشر للبنك المركزي لتحديد سعر إعادة الخصم، وكذلك مؤشر للبنوك لتحديد أسعار الفائدة الخاصة بها.
مما سبق نخلص إلى إن الخبرة الدولية تؤكد أن الإتساق والتزامن بين السياسات النقدية والسياسات المالية العامة وسياسات سعر الصرف هو سر النجاح. خاصة أن البلدان التي اتجهت إلى تحرير سعر صرف عملتها دون الإهتمام بإتباع سياسات نقدية ومالية مناسبة قد عانت من تدهور سعر عملتها كنتيجة لاستمرار السياسات النقدية والمالية التوسعية. كما أن سعر الصرف المناسب ينعكس إيجابيا على أوضاع الموازنة العامة بما يساعد بدوره على تحقيق هدف الإستقرار النقدي.