بقلم: د. سمير محمود
Drsamir33@yahoo.com
في واحدة من الأمسيات الإبداعية وعلى مدى 90 دقيقة من المتعة الخالصة، قضاها الجمهور من عشاق فن العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، عملاق الفن العربي مع أفلامه وأغنياته التي جددت الذكريات، وأشعلت الحماس في أرجاء مسرح مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء” مبادرة أرامكو بالظهران في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية، على مدى خمس ليالي، خلال شهر أكتوبر الماضي.
الجمهور كان على موعد مع السلطنة، في حفلات مسائية تبدأ عند الثامنة وتنتهي في التاسعة والنصف على مسرح “إثراء”، بالتعاون مع مهرجانات بعلبك الدولية، وبقيادة المايسترو الرائع هشام جبر، الذي وضع التصور الفني والتوزيع الأوركسترالي لهذه الحفلات، بإخراج متميز لأمير رمسيس، تكريمًا لأعظم مطربي وممثلي مصر في عصره، حليم.
الحفل يستعرض في كل ليلة مقتطفات من حياة وفن و
صور الراحل عبد الحليم حافظ، مأخوذة من 30 فيلمًا من أبرز أعمال الفنان المصري الراحل، أداء غنائي للفنان محمد شوقي مطرب جامعة عين شمس، والمطربة نهى حافظ شوقي، وكلاهما صوليست بدار الأوبرا المصرية.
في مسرح “إثراء” سحر الصوت، وروعة الأداء والعزف المتميز والإخراج المبهر، لهذه الروائع الغنائية، التي مثلت أرقى تكريم للصوت المصري المتفرد “حليم”، باستعراض أعماله وأفلامه وأداء تابلوهات غنائية من بينها: “يا قلبي يا خالي”، “الهوى هوايا”، “التوبة” “بلاش عتاب”، “جبار” اللتان أبدع فيهما محمد شوقي متفوقًا على نفسه، إضافة الى أغنيات “بيني وبينك”، “أهواك”، “شغلوني”، ودويتو “تعالي أقولك”، الغنوة التي برع فيها المطربان، وتفاعل معها الجمهور بحرارة، وبالمثل فعل مع أغنيات “وحياة قلبي وأفراحه”، و”جانا الهوى جانا”، التي رجت أرجاء المسرح بالتصفيق الحاد والمستمر إعجابًا وطربًا.
هذه الليالي الغنائية الأصيلة، التي صاحبها عرض مفتوح في جنبات وأروقة مركز “إثراء”، للقاهرة بشوارعها القديمة، وآكلاتها الشعبية، ولوحاتها وفنونها وآلاتها الموسيقية مثل العود والطبلة والدفوف وغيرها، مع العروض الغنائية الأخرى، في الساحة الخارجية قرب مدخل مركز “إثراء”، والتي شهدت أيضًا كثافة جماهيرية ملحوظة، هذه الفعاليات نجحت في نقل أجواء القاهرة وعكست عدة أمور جديرة بالتأمل:
أولها: أن صوت المطرب عبد الحليم حافظ حاضر بقوة، ولا زال نابضًا بالحياة، يعيش في وجداننا وذاكرتنا الجمعية، رغم رحيله قبل 45 عامًا.
ثانيها: أن بصمة حليم الفنية باقية، وأن لأغانيه وأفلامه عشاق بامتداد الوطن العربي الكبير، وخارجه حيث تنوعت جنسيات الحضور بشكل ملحوظ، لتعكس تقديرًا واسعًا لفن العندليب.
ثالثها: أن ذائقة الجمهور السعودي متفردة ونوعية بامتياز، وأن غالبية الحضور كانت من أجيال الشباب ومتوسطي العمر، ممن لم يلحقوا حليم في حياته، ما ينفي بشكل قاطع التلميحات غير الدقيقة الموجهة لشباب الجيل من الجنسين، والتي تتعلق بالجري وراء الأغاني الغربية سريعة الإيقاع، مقابل هجر الأغاني الطربية والموسيقى العربية الأصيلة.
رابعها: أن أجواء الحفلات بموسيقاها وإخراجها ومشاهد الأفلام والإضاءة والدخان، نجحت في استحضار الماضي ووضعت الجمهور في قلب التجربة الغنائية لحليم، في زمن الأبيض والأسود، فأكسبتها بريقًا وواقعية ساحرة، وعَبرت عن تراث الموسيقى الخالدة بامتياز.
خامسها: أن صوت حليم، العابر للأزمنة والأجيال، أثبت أن الجمهور اليوم هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وأن المسرح العصري في تصميمه، والذي يتسع لنحو ألف مقعد، ويستهدف نحو 50 ألف زائر سنويًا، قد امتلأ عن آخره، في دلالة على تعطش الجمهور للفن الجميل والطرب الأصيل والكلمات ذات المعنى والألحان المتميزة والأداء الغنائي الفريد.
سادسها: يعكس أداء المطربين محمد شوقي ونهى حافظ، حقيقة أن مصر ولادة، وعامرة بالمواهب والأصوات الذهبية، التي لاقت استحسان الجمهور وتفاعله الكبير طوال الحفل.
تحية تليق بالعندليب الأسمر حليم، وتهاني خاصة للمطربين المصريين ولمخرج الحفلات أمير رمسيس، وتحية لمركز (إثراء) بالمنطقة الشرقية، موطن الإبداع وواجهته في المملكة العربية السعودية، باختياراته الواعية لبرامجه وعروضه ومهرجاناته الإبداعية، ومبادراته وبرامجه وفعالياته ومسابقاته المتجددة باستمرار، والتي يقف خلفها فريق من المبدعين في التخطيط والإدارة والتنفيذ، وتحية خالصة لشباب وشابات من المتطوعين لخدمة جمهور ورواد وزائري المركز، صورة متكاملة ومشرقة من الانفتاح الواعي على عواصم الفكر والفن والأدب والثقافة العربية والعالمية.