قبل أن تقرأ المقال إسال جوجول عن حرب الثلاثين عاما
عندما يقع ناظر قرائي الكرام على المقال هذا، سيكون قد مضى عام كامل على الحرب في أوروبا. ومنذ بداية الشهر هذا وأنا أقرأ سيلا من المقالات في الصحافة الغربية حول هذه الحرب التي ميدانها حتى الآن أوكرانيا، بيد أن وقعها وتبعاتها وويلات نطاقها محسوسة على مجمل القارة الأوروبية برمتها. وأغلب ما قرأته يمثل هجوما على روسيا وشخص رئيسها فلاديمير بوتين. والذكرى السنوية لأي حدث تأخذها الصحافة الغربية بمنزلة جرد حساب يشبه إلى حد كبير المعلم الذي يقوم بتصحيح الدفاتر الامتحانية لطلبته.
وتكيل الصحافة المديح لأداء أوكرانيا في الحرب وتمنحها من الدرجات ما قد يحسدها عليه أي طالب يدخل اختبارا، وتشيد بالحلف الأطلسي وثبات دوله في حرمان روسيا من الانتصار في الحرب، لا بل العمل على سحقها في النهاية.
وهناك من الوسائل الإعلامية من قام بنشر أعداد خاصة حول الذكرى السنوية الأولى للحرب في ثناياها كثير من التجييش على تسعير نيران المعركة وحرمان روسيا حتى من أي اتفاق أو وقف للنار لا ينتهي بها إلا وهي مكسورة الجناح. وفي آخر عدد لمجلة “نيوزويك” الأمريكية الشهيرة الذي جله مخصص لمناسبة مرور عام على هذه الحرب التي روعت العالم، قرأت خمسة مقالات طويلة تشيد بالجيش الأوكراني وصلابته ومرونته، وتتهكم على الجيش الروسي لتشبثه، حسب زعمها، بتقليد عسكري يعود إلى الحرب العالمية الثانية ويفتقر إلى المبادرة والتعلم من دروس المعارك التي خيضت خلال عام كامل من الحرب. سأترك باب الحكم على العلميات العسكرية ومسارها جانبا، حيث إنني لست محللا عسكريا.
وغالبا ما أتجنب التخمين والتكهن بمسار الأحداث، لكن إن كانت دراسة التاريخ وقراءته بمنهجية تمنحنا ما قد تكون عليه الأمور في المستقبل، فإننا قد نكتب عن ذكرى مرور ليس عاما على هذه الحرب بل أعواما عديدة. ما لم تقع معجزة، فإن هذه الحرب مكتوب لها الاستمرار ولن تضع أوزارها حتى وقوع ما لا يحمد عقباه، وهو دمار هائل وشامل يغطي قارة أوروبا بمجملها، كما حدث في الحرب العالمية الثانية. لم تقع حرب في أوروبا إلا واستمرت أعواما عديدة، ولم تنته إلا بعد أن ثخنت جراح المتحاربين ووقعوا صرعى قتالهم المرير. حتى إن فاز طرف في الحرب في أوروبا، وهذا ما يدلنا التاريخ عليه، فإن الذي يرفع راية النصر المزعوم لا ترفرف إلا على ركام المدن وجثث الضحايا.
كل طرف حاول منذ البداية تجنب حرب طويلة، أي: أرادوها حربا خاطفة، لكنهم وقعوا في الفخ ذاته الذي وقع فيه أسلافهم في حروبهم العالمية والمناطقية. الغرب تصور أن حصاره الشامل غير المسبوق على روسيا سيركعها في غضون أشهر، وهذا لم يحدث، ولا أتصور أنه سيحدث. روسيا، بجيشها الجبار، تصورت ومعها كثير في العالم، أن عملياتها العسكرية ستكون خاطفة وتحصل على مرادها في غضون أسابيع وليس شهورا.
القارئ النابه لتاريخ الحروب المدمرة في أوروبا لا بد أن يلحظ إشارات قلما يتطرق إليها الإعلام أو يرد ذكرها في الخطاب السياسي المرافق لهذه الحرب. هناك ما هو أبعد بكثير من الذي يطرق مسامعنا وما يسعى الإعلام الغربي إلى غرسه في أدمغتنا في حملة الإقناع وكسب العقول والقلوب. بين روسيا ومن يدور في فلكها في الغرب وبين أوروبا الغربية ومعها أمريكا صراع وخلاف يتجاوز بعده ما نقرأه وما يردنا من مسببات لوقوع هذه الحرب المدمرة واستمرارها. هناك بعد أيديولوجي ومذهبي. الطرفان وإلى اليوم يريان أن الآخر على باطل مذهبيا، والتاريخ شاهد على مذابح وحروب مذهبية دامت عقودا ودمرت الحرث والنسل.
شدني مقال مترجم قرأته أخيرا يذكر الغربيين كيف أنهم وجهوا حملة عسكرية كبيرة كانت وجهتها الظاهرة الشرق الأوسط، لكنها هاجمت من يختلف عنهم مذهبا في الفلك الروسي ووقع ما وقع من مذابح ودمار قد تخفق الكلمات في وصفه. لا يغرنكم التمدن والحضارة والرقي العلمي والتكنولوجي للغرب. تقول العرب عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، والحروب امتحان، والحرب الحالية في أوروبا وبعد مرور عام عليها، أكبر اختبار يواجهه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وإن كان لي أن أقوم بتصحيح دفتر الاختبار لهذه الحرب، أقول إن الغرب وأوروبا عموما أماطا اللثام عن دواخلهما ومكنوناتهما. الحرب أظهرت أن الغرب وأوروبا ليسا أكثر عقلانية وتمدنا وتقدما من حيث الفكر وبعد النظر من شعوب العالم الثالث، أو ما يطلق عليها حاليا شعوب جنوب الكرة الأرضية. لا بل قد يكون العالم الثالث أكثر رجاحة عقل عند وقوع صراع مسلح بين شعوبه. لقد أظهرت الحرب في أوروبا أن الغرب على شفا أن يفقد عقله، ونحن نفقد عقلنا عندما نقع في حفرة ثم نتعمد الحفر لكيلا نخرج منها. أي نظرة فاحصة للحرب هذه بعد مضي عام كامل عليها أظنها سترى أن الصراع الحالي هو حتى الموت، وأن كل يوم يمر يزداد عمق الحفرة ويتعسر الخروج منها.