لم يسبق لليأس أن فاز بأية معركة! هذا هو أول سطر بدأ به الكاتب الكبير الأستاذ أحمد المسلماني كتابه “الهندسة السياسية.. مصر ما كان وما يجب أن تكون.” عن الدار المصرية اللبنانية، وهو آخر سطر ختم به كتابه من 330 صفحة من القطع المتوسط، وبين السطرين أطروحة فكرية بحجم وطن، وحلم في صورة مشروع حضاري، وإستراتيجيات أضخم من كل التفاصيل، وحركات وخطوات بحجم الرؤى الواضحة، تنتظر قرارات تليق بالفكرة والخطوة والحلم والمشروع الحضاري لتقدم مصر ونهضتها. الهندسة السياسية لدى المؤلف ليست دعوة إلى الديكتاتورية الفكرية أو تعزيز الرأي الواحد.. كما أنها ليست دعوة إلى الاستعلاء على طبيعة المجتمع أو تجاوز إرادة الشعب. إنها صياغة رؤية تنطلق من دراسة كل شيء لتحسين كل شيء.. ووضع تصور كلّي بعيد المدى يصيغ السياسات ويضبط الخُطى باتجاه ما يجب أن يكون.
الهندسة السياسية ببساطة.. هي علم النهضة، أو هي علم التقدم، وبحسب المسلماني هي علم بناء الدولة.. عبر تخطيط شامل للسلطة والمجتمع.. بما يؤدي إلى انتقال الدولة من التخلف إلى التقدم.. أو من التقدم إلى التقدم الأعلى.. مع وضع آليات استدامة لعملية التقدم. في هندسة الماضي قدم الكتاب نماذج لمشاريع ونماذج عديدة باهرة للهندسة السياسية حول العالم منها اليابان وكانت سباقة في تقديم نموذج رائد في «إدارة الضعف» و«هزيمة الهزيمة” وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وماليزيا والصين وألمانيا والهند. ترميم الوطنية يؤكد الكتاب أن «الوطنية السطحية» التي تتحدث عن مصر على نحو ساذج وركيك، مثلت عبئًا على «الوطنية العلمية» التي تقوم على حقائق وثوابت.. ويحتاج سبر أغوارها إلى رؤى ومعارك.. لا مجرد الهتاف والتصفيق. إن مصر لم تعد كما كانت.. لا الحضارة هي الحضارة، ولا المكانة هي المكانة.. ويحتاج ترميم المسافة الشاسعة بين ما هو كائن.. وما كان.. أو بين ما هو كائن.. وما يجب أن يكون.. إلى أطروحات ونظريات.. وإلى سياسات وقرارات. وفي تطرقه لهندسة الماضي يفند الكتاب الإدعاءات والأكاذيب التي لحقت بتاريخ مصر، فيقول: لم تقف الأكاذيب بشأن التاريخ المصري المجيد عند خرافة أن مصر أطول المستعمرات عمرًا.. بل تجاوزت إلى الادّعاء بأن عصور الاستعمار في مصر هي عصور الإنجاز والتعمير، وإن عصور التخريب والفشل هي في الأغلب فترات حكم المصريين لبلادهم. ويخلص الى أنَّه حين تُحكم مصر من داخل مصر.. يكون الصعود وحين تُحكم مصر من خارج مصر يكون الهبوط. هنا تكمن فلسفة التاريخ في مصر: عصور الاستقلال هي الأكبر في تاريخ لعالم..وعصور الاستقلال هي نفسها عصور الازدهار. المصريون فراعنة نحن المصريون فراعنة.. يمتد نسبنا المجيد إلى الأمة الفرعونية، ولما شرفَتْ بلادنا بدخول الإسلام الحنيف.. أصبحت أمتنا الفرعونية جزءًا من لأمة العربية والإسلامية. لا يزال المصريون فراعنة من حيث الانتماء العرقي والأصل التاريخي.. هم أيضًا مركز العروبة والإسلام من حيث الانتماء الديني والتكوين الثقافي.
لا جديد! إن هندسة الماضي.. وإعادة تقديم التاريخ.. لا تعني رواية ما لم يحدث، ولا خلق مـا لـم يـوجـد.. وإنّما الإضاءة الكثيفة والدائمــة علـى الحقائق الحضارية المصرية.. ليس فقط من أجل سحق أكاذيب عصر الاستعمار ومجابهة أساطير الحرب النفسية ، وإنما أيضًا – ليعرف العالم المعاصر .. أنه ليس العالم الوحيد.. وأنَّ التاريخ لا يمكن أن يكون قطعة من السهو .. أو مساحة من النسيان! المسلماني بحكم قربي منه وعلاقة صداقة ممتدة لعقود، شخصية بالغة التهذيب وله مفهومه الخاص فيمن اسماهم بالعُملاء الحقيقيون! هؤلاء كلما وجدوا موهوبا أو شريفًا أعدوا له العدة تحجيمًا وتدميرًا، ولهذا تجمدت بلادنا لسنوات طويلة.. كان عنوانها الرئيسي: لا جديد! كل من أَمْسَكَ بشيء لا يريد لأحد أن يصل إليه.. وكل من وصل إلى شيء.. لا يريد لأحد أن يدنو منه. إن تحالف عديمي الموهبة في مصر، هو “الطابور الخامس” الحقيقي..وهو أداة تركيع هذا الوطن. (ص106) إن تحالف الجهل والفساد لا يزال قادرًا على إرباك المشهد، وتدمير القوة الناعمة، وإنهاك الدولة والمجتمع في تفاهات.. تجري صناعاتها، ووضع إطارها، بكفاءة وعناية. ثمة جدول زمني للتفاهة في مصر، كل قصة تافهة تأخذ المدى الزمني المحسوب، لتبدأ القصة التافهة التالية..! السينما والدراما والإعلام شركاء فيما يجري.. بإخلاص واقتدار. هناك بالطبع من يقبضون على الجمر.. ويواصلون الطريق الصعب، ويبذلون جهودهم لأجل قوة ناعمة قائدة.. وراسخة، ولكنَّ قدرة العملاء الحقيقيين كبر كثيرًا من قدراتهم.
إن «العملاء الحقيقيين» أو على نحو أدق “العملاء الأكثر خطورة” هم الذين يمنعون الأذكياء في بلادنا من الوصول إلى أماكنهم، وهم الذين يطردون العملة الجيدة لأجل العملة الرديئة. الجاهل والفاسد! طرحته عليه السؤال: ما رؤيتك للفاسد؟ فأجاب قولا واحدًا: الجاهل إذا تولى منصبا فهو فاسد، وحتى إذا لم يسرق ولم ينهب.. ذلك أن خسائر الجهل تفوق خسائر الفساد. ولا تهوي الأوطان على نحو مفاجئ.. بل هناك من يقومون بالتجريف المستمر حتى يقع الانهيار ! بل إن الذين يشاهدون عمليات التجريف، ولا يحركون ساكنا هم مشاركون… ومجرمون. العاصمة والأقاليم تحتاج مصر إلى الإضاءة خارج القاهرة إلى إلغاء تلك الرؤية الركيكة حول «مدن الأقاليم» و«المحافظات» و«الأرياف» و”الصعيد “، إن اختزال مصر في العاصمة.. هو تدمير منظم للجسد المصري.. الاكتفاء منه بالقلب.. والإطاحة بباقي الأعضاء ! إن «دافوس” في سويسرا و «كان» في فرنسا نموذجان لصناعة المدن الكبرى من لا شيء.. وفي مصر جرى صناعة لا شيء من المدن الكبرى، ببساطة.. عندنا تاريخ بلا إضاءة.. و . وعندهم إضاءة بلا تاريخ!