متناقضات الاجتماع والسياسة في الولايات المتحدة د. سعد الدين إبراهيم semibrahim@gmail.com في الولايات المتحدة، كما في معظم الديمقراطيات الغربية الناضجة، يوجد حزبان كبيران، هما الحزب الجمهوري، والحزب الديمقراطي، في السُلطة حالياً، وحيث يشغل الرئيس جو بايدن، البيت الأبيض، رمز تِلك السُلطة الرئاسية، والذي كان يشغل قبله الرئيس الجمهوري دونالد ترامب، والذي خسر الانتخابات الرئاسية، عام 2020، بفارق الأصوات لم يتجاوز عِدة آلاف صوتاً.
وهو ما جعل ترامب وأنصاره، في الحزب الجمهوري يعترضون على تِلك الانتخابات، ويدّعون أنه شابها تزوير كبير. ورغم أن المحاكم العُليا في الخمسين ولاية أمريكية، لم تجد أي تزوير، لا في إجراء العملية الانتخابية، ولا في فرز وتجميع الأصوات، إلا أن الرئيس السابق دونالد ترامب، هو وأنصاره ما يزالون يُصرون على أن الانتخابات قد سُرقت منهم، وأنهم الجديرون بالجلوس في البيت الأبيض، رمز الرئاسة الأمريكية.
ولكن بعيداً عن ذلك الشجار الحزبي بين الجمهوريين والديمقراطيين، ما هي الفوارق الحقيقية في أفكار ومعتقدات، وممارسات كل من الحزبين المتنافسين في الساحة الأمريكية؟
ارتبط الحزب الديمقراطي خلال القرنين الأخيرين بأنه حزب الأمريكيين الأقل يُسراً وثراءاً، من الطبقة العاملة والمتوسطة، والمهاجرين الجُدد، والمثقفين اليساريين. وكان وما يزال هذا الخليط هو الكثرة العددية، حوالي 45%، ويشبهون الخنافس، الرمادية ذات الألوان الداكنة.
بينما ارتبط الحزب الجمهوري، تاريخياً، بأنهم الميسورين من العناصر البيضاء، ذوي الأصول البروتستانتية، الأنجلو سكسكونية، الذين يُشبهون الدبابير، ذات الألوان الذهبية، ويمثلون حوالي 30% من الناشطين سياسياً.
أي أن مجموع الناشطين سياسياً في الحزبين معاً هم حوالي 70%. ويبقى هناك حوالي 30% من الذين يتأرجحون بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وهذه الكُتلة المتأرجحة، هي التي يمكن أن يستهويها، بين الحين والآخر، الحزب الجمهوري، للفوز بالمنصب الرئاسي، كل أربع سنوات.
وقد لاحظ عُلماء الاجتماع السياسي، خلال المائة سنة الأخيرة، أي منذ ثلاثينيات القرن العشرين، أن المواطنين الأمريكيين من ذوي الميل للحزب الجمهوري (الدبابير) هم الأكثر حرصاً على التصويت، بينما أنصار الحزب الديمقراطي، (الخنافس)، فإنهم أقل وعياً، وأقل حرصاً على ممارسة حقوقهم الدستورية بالتصويت بالانتخابات.
وذلك ما يُفسر أن حزب الأقلية، الجمهوري (الدبابير)، يفوز بين الحين والآخر في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية (مجلس الشيوخ والنواب).
ولكي تزداد صورة المسرح السياسي الأمريكي تعقيداً بالنسبة لمن ينظرون إليه من خارج الولايات المتحدة أن هناك اجتماعية بيضاء، من الأقل حظاً اقتصادياً وثقافياً، ويعيشون في المُدن الأمريكية الصغيرة، يشعرون بالإحباط والحرمان من تفاعلات السياسة في مجتمعهم، وأن أصحاب القرار في واشنطون (أي الكونجرس والبيت الأبيض)، لا يهتمون بهم، رغم أن أصولهم البيضاء الأنجلوسكسونية،
هم المُهاجرون الأوائل الذين استوطنوا القارة الأمريكية، وشيّدوا عمرانها، ونمّوا اقتصادها. ومع ذلك فإن قادمين جُدد، من أمريكا اللاتينية وأسيا، وأفريقيا، أصبحوا أكثرية انتخابية تتحكم في مصيرهم ومصير بلادهم.
تِلك الشريحة من قدامى الدبابير، الذين كانوا أغلبية منذ بداية الولايات المتحدة، تشعر بالإحباط، والخوف على مصيرها ومصير أبنائها من خنافس القادمون الجُدد. وتِلك هي الشريحة الصلبة، التي أيّدت، وما زالت تؤيد دونالد ترامب، وهم المستعدون للتخلي عن القيم الديمقراطية، وتبني سلوكيات فاشية، وعبادة الزعيم الذي يرون فيه صورة المُنقذ من ضلال الخنافس، القادمين الجُدد، ولاستعادة السيادة والاحترام اللذان يليقان بأبناء الأصول (الدبابير).
أولئك المحبطون هم الذين جاء بعضهم إلى العاصمة واشنطون من كل أرجاء أمريكا، وحاصروا مبنى الكونجرس، صباح يوم الرابع من يناير 2021، ليمنعوا بالقوة، اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية، التي كانت قد عُقدت في شهر نوفمبر 2020، وفاز فيها الديمقراطي جو بايدن، على زعيمهم دونالد ترامب، بهامش صغير، حوالي 2%.
وتِلك هي الأحداث التي هزت صورة الديمقراطية الأمريكية في نظر دوائر واسعة حول العالم، حيث أن عِدة رؤساء أمريكيين سابقين، منهم كلينتون وجورج بوش وكينيدي، كان قد تم انتخابهم بأغلبية طفيفة لم تتجاوز اثنان في المائة، ضد منافسيهم، ومع ذلك كان الخاسرون بنسبة ضئيلة يقبلون النتيجة بروح رياضية. وكانت حالة رتشارد نيكسون، لفترتين متتاليتين (1952-1956)، و(1956-1960). ولكنه حينما ترشح للرئاسة عام 1960، خسر ضد الشاب المبتدئ جون كينيدي، بأقل من 2%. ومع ذلك قبل النتيجة.
وتمر ست سنوات أخرى، ويترشح نيكسون مُجدداً، عن حزبه الجمهوري، ضد إدلاي ستيفنسون عن الحزب الديمقراطي، ويفوز نيكسون هذه المرة، وبنسبة ضئيلة، ويقبل مُنافسه الديمقراطي النتيجة عن طيب خاطر. وهكذا الديمقراطية الأمريكية بتقاليدها الراسخة، إلى سباق الرئاسة عام 2016، الذي فاز فيه الجمهوري دونالد ترامب، ضد هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، وبأغلبية طفيفة، ولكن هيلاري كلينتون قبلت النتيجة وبروح رياضية. ومع محاولة دونالد ترامب الترشح لفترة ثانية، فإنه خسر ضد الديمقراطي جو بايدن، وأيضاً بفارق 1%. وعلى الله قصد السبيل