مصطفى عبيد يتساءل : كيف ننخدع بالزن على الآذان؟
ما الفارق بين نابليون وهتلر؟ توسع كلاهما على حساب الجيران، وافتعلا نزاعات كاذبة لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وصناعة أمجاد كاذبة على جثث ضحايا أبرياء، سُحقت عظامهم، ونُكل بهم تحت مبررات عديدة، تارة باسم الضرورة، وتارة باسم تهوين كل شئ في سبيل غايات عُظمى.
عاش نابليون واحد وخمسين عاما، بينما عاش هتلر ست وخمسين عاما، وتركا كلاهما تاريخا وأحداثا جسام، مازالت محل بحث ودراسة.
صحيح أن نابليون تميز بكفاءة عسكرية عظيمة جعلته يحصل على رتبة جنرال وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وربما كان ذكيا وماكرا ولماحا، لكنه مثل هتلر في قسوته وبشاعته واستحلال دماء البشر، واستعبادهم.
كان كلاهما طاغية، مستبد، يعشق الدماء، ويتلاعب بالأخلاق والقيم في سبيل مجده الشخصي، الذي يتصور أنه هو ذاته مجد وطنه.
لا ينسى المؤرخون الجدد في أوروبا أن نابليون مع كل الاحتفاء الفرنسي، والأوروبي به خلال العقود الماضية، هو الذي أصر على إعادة العبودية إلى فرنسا بعد عقدين من إلغائها.
ولا ننسى نحن – أهل الشرق – أن نابليون الذي غزا مالطة ومصر والشام ارتكب في يافا سنة 1799 مذبحة بشعة تمثل عارا إنسانيا لا يُمكن محوه أبدا. لقد ذكر لنا المؤرخون أن القائد الفرنسي مضرب الأمثال في الفروسية والشجاعة حاصر بقواته مدينة يافا لعدة أيام ، ثُم دعا أهلها وجنودها إلى التسليم، وأرسل إليهم رسلا بذلك، وبعد مشاورات ومفاوضات قبلت حامية المدينة التسليم مع حصولهم على الأمان. ووافق نابليون ظاهريا، لكن الجميع بما فيهم الفرنسيون أنفسهم فوجئوا به يأمر باعدام الأسرى الذي يقارب عددهم ثلاثة آلاف شخصا.
يصف كريستوفر هارولد، في كتابه “نابليون في مصر” ترجمة فؤاد اندراوس، بعض جوانب المذبحة، نقلا عن أحد الجنود الفرنسيين في خطاب أرسله لأهله، إذ يقول إن الأسرى استسلموا بسلامة نية، وتم اقتيادهم نحو البحر، ورصوا صفا خلف آخر، ثم أطلق الفرنسيون عليهم النار، وقفز من حاول الفرار في الماء، لكن الرصاص لاحقهم ليصطبغ البحر باللون الأحمر.
وبالنسبة للأطفال والمدنيين، فقد تركوا يومين دون طعام، ثُم صدرت الأوامر باعدامهم مع التأكيد على عدم الاسراف في الذخيرة المستخدمة، لذا اضطر الجنود الفرنسيون إلى اعدام معظمهم بحراب بنادقهم، وهو ما جعل الشاهد الفرنسي يقول لأهله “إن هذا العار سيطاردنا آجلا أم عاجلا”.
كانت هذه بعض ممارسات السفاح نابليون، الذي حاولت آلة الدعاية الفرنسية الترويج له باعتباره مقاتل شجاع وفارس نبيل وقائد عظيم. وللأسف تلقفت الذهنية العربية الصورة كما هي واعتبرته نموذجا فذا للعبقرية العسكرية.
لكن ماينبغي الإشارة إليه الآن بروية ونظرة ثاقبة هو أن مذبحة يافا تمثل نموذجا واضحا للانحطاط الإنساني والتجرد من أي أخلاق وقيم، وهو ذاته ما شهدناه وعرفناه مع أدولف هتلر ومع غيره من المستبدين المهووسين بالدم في ربوع الأرض.
وإذا كانت الدعاية الفرنسية قد احتفت بانتصارات قائدها التاريخي، ورسمت صورة أسطورية له تقدمه كقدوة للأجيال الجديدة، فهو معشوق النساء، ومحب الفنون، والرجل الذكي الوسيم. فإن ألمانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية، تبرأت من مذابح وحشها المهووس هتلر، وتنكرت لانتصاراته، وغضت الطرف تماما عن كل مبالغات الدعاية المعاكسة التي نفذها المنتصرون تجاه المُنهزم.
وهذا درس مهم يجب تعلمه عند قراءة الماضي…
والله أعلم