بوتين والصراع مع الغرب… ماذا بعد؟
الولايات المتحدة لا تستطيع تغيير حساباتها تجاه أوكرانيا ولم يعد أمامها سوى الانتظار حتى رحيل الرئيس الروسي
سامي عمارة
كاتب وصحافي
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال في لقاء صحافي قبيل بدء زيارته الأخيرة إلى منغوليا إن “الغرب الجماعي” يتخذ من أوكرانيا ورقة مساومة في تنفيذ طموحاته الجيوسياسية، وإنه ينظر إليها بوصفها سلاحاً في حربه مع روسيا،
لكنه أكد أن موسكو ستواصل تنفيذ كل المهام الموكلة إليها لضمان أمنها.
كشف الرئيس الأميركي جو بايدن في أكثر من مناسبة عن عدائه “التاريخي” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوله صراحة “هذا الرجل يجب أن يرحل”، بل وكان أسلافه أعلنوا منذ مطلع القرن الـ20 عن ضرورة “تفكيك الدولة الروسية” إلى أربع أو خمس جمهوريات، في إشارة إلى خطورة بقاء هذه الدولة “السوفياتية” بوصفها أكبر الدول في العالم مساحة جغرافية، وهو ما أعاده بوتين إلى الأذهان في لقائه مع جنوده مطلع العام الحالي.
عاد هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية السابق ليتحدث قبل وفاته عن “الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ”، وهو ما لم ينفه الرئيس الروسي حين اعترف بأنه يسير على خطي بطرس الأعظم مؤسس روسيا الحديثة، بقوله إنه لا يريد سوى “لملمة شتات” الإمبراطورية الروسية السابقة،
وقال إنه “يعيد الأراضي، ولا يقتطعها” من أحد. ونذكر ما قاله بوتين في معرض حديثه إلى الإعلامي الروسي فلاديمير سولوفيوف حول “المواجهة النووية” بأنه “لا حاجة لنا بعالم ليس فيه مكان لروسيا”.
وهكذا تتعدد التصريحات التي تقول بأن بوتين حاسم في توجهاته، وحاد في مواقفه تجاه ضرورة الحفاظ على تاريخ الوطن وجغرافيته، وصارم في مواجهة كل من تسول له نفسه باستغلال المواقف، للنيل من سيادة روسيا وتاريخها وسلامة أراضيها، وفي ذلك تكمن مبادئ وأسس سياسته الخارجية.
الصراع التاريخي مع الغرب
وفي لقائه مع صحيفة “أونودور” المنغولية، قبيل بدء زيارته الأخيرة إلى منغوليا قال بوتين إن “الغرب الجماعي” يتخذ من أوكرانيا ورقة مساومة في تنفيذ طموحاته الجيوسياسية، وإنه ينظر إليها بوصفها سلاحاً في حربه مع روسيا، وأكد أن روسيا ستواصل تنفيذ كل المهام الموكلة إليها لضمان أمنها”.
وكان بوتين كشف في مطلع العام الحالي عن أنه في مقدور روسيا التعامل مع الغرب بشكل أسرع مما يستطيع الغرب التعامل مع روسيا. وقال إنهم في الغرب أعلنوا رسمياً عن هدفهم المتمثل جوهره في إلحاق “هزيمة استراتيجية لروسيا في ساحة المعركة”، نظراً لاعتقادهم بأن وجود روسيا بقدراتها وحجمها الحالي أمر غير مقبول بالنسبة لهم”، ويهدد مصالحهم وينال من طموحاتهم تجاه توسع حلفهم العسكري في اتجاه الشرق.
ونشرت مجلة “السياسة الخارجية” الأميركية أخيراً مقالاً لبيتر شرويدر الخبير بالشؤون الروسية والأورواسيوية بوكالة الاستخبارات المركزية سابقاً، حول استراتيجية الولايات المتحدة في أوكرانيا ومستقبل نهاية الصراع الأوكراني، يقول فيه إن الغرب لا يستطيع تغيير حساباته، ولم يعد بإمكانه سوى الانتظار، حيث ما زالت استراتيجية واشنطن لإنهاء الحرب كما هي “فرض تكاليف باهظة على روسيا، حتى يقرر فلاديمير بوتين أنه ليس هناك خيار سوى وقف الصراع”.
وفي محاولة لتغيير حسابات التكاليف والفوائد، أشار شرويدر إلى “أن واشنطن تحاول إيجاد النقطة المثالية بين دعم أوكرانيا ومعاقبة روسيا من ناحية، والحد من أخطار التصعيد من ناحية أخرى”. واعترف الخبير الأمني الأميركي بأن هذا النهج، وعلى رغم مما يبدو عليه من عقلانية، يرتكز على افتراض خاطئ هو أن رأي بوتين يمكن أن يتغير، وذلك ما لا يمكن أن يكون، على حد تعبيره.
واستطرد شرويدر ليقول إن” الأدلة تشير ببساطة إلى أن بوتين، في ما يتعلق بأوكرانيا، غير قابل للإقناع، ومتمسك بكل شيء، ومنع الغرب الحصول على أوكرانيا لتكون معقلاً له يستخدمه لتهديد روسيا يشكل ضرورة استراتيجية بالنسبة له، ويستحق أي تكلفة، ومحاولات إرغامه على الاستسلام هي ممارسة عقيمة بلا جدوى، لن تؤدي سوى إلى إهدار الأرواح والموارد”.
انتظار رحيل بوتين أو وفاته
ولما كان الهدف المعلن هو الإطاحة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو كما أفصح الرئيس الأميركي جو بايدن في أكثر من مناسبة حول “حتمية رحيل هذا الرجل”، فإنه لا يوجد حلول لذلك سوى العمل على تنفيذ مثل هذه “الأحكام”، وهو أمر صعب المنال، إن لم يكن بعيده، ومن ثم فإنه لا حل آخر لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، وبحسب ما نشرته مجلة السياسة الخارجية الأميركية، سوى الانتظار حتى “رحيل بوتين”، وتوفير الموارد والأموال إلى حين حدوث ذلك.
وفيما أشار إليه شرويدر في مقاله الأخير في مجلة السياسة الخارجية الأميركية، حول أن “وفاة بوتين أو تركه منصبه” سيسفر، في الحال، عن “فرصة للسلام الدائم في أوكرانيا”، بوصفه الخيار الوحيد لإنهاء الحرب في أوكرانيا، فإن ذلك يظل مسألة جدلية من منظور تزايد احتمالات “أن القادم بعد بوتين” سيكون في أغلب الظن “أكثر راديكالية”.
وكانت قناة “روسيا اليوم” نقلت عن مجلة السياسة الخارجية ما قاله شرويدر حول أن بوتين “لم يكن انتهازياً في يوم من الأيام، لا سيما في أوكرانيا، وأن تحركاته الدولية الأكثر أهمية، لم تكن انتهازية لكسب مزايا أو مكاسب، بقدر ما كانت جميعها، جهوداً وقائية لمنع خسائر، أو للانتقام من استفزازات يتصورها هو”، على حد تعبير الكاتب.
ويسوق الكاتب أمثلة منها “العمل العسكري في جورجيا 2008، والذي كان رداً على هجوم روسيا على منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية، وكذلك ضم القرم في 2014، كان يهدف لمنع ضياع القاعدة البحرية الروسية على البحر الأسود، فضلاً عن التدخل في سوريا 2015 الذي كان يهدف إلى منع سقوط بشار الأسد، الزعيم المقرب من روسيا”.
وقال شرويدر إن بوتين، وبعد ضم القرم، وبدلاً من التحرك بقوة للسيطرة على أراض إضافية، لا سيما أنه كان بوسع موسكو حينها التقدم أبعد على طول ساحل بحر آزوف لتأمين ممر بري من شبه جزيرة القرم إلى روسيا، إلا أنه اختار التسوية السياسية آنذاك، وأبرم مع كييف، برعاية فرنسا وألمانيا اتفاقيات مينسك، وهي الاتفاقيات التي عادت أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية السابقة وزميلها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند إلى الاعتراف صراحة بأنها “لم تكن سوى ستاراً يتم من ورائه إعداد الجيش الأوكراني وتسليحه لاستعادة ما فقدت البلاد من أراض بالقوة المسلحة”.
بوتين وسياسته الخارجية
أعلن الرئيس بوتين في أعقاب “العملية العسكرية الروسية الخاصة” في أوكرانيا، عن تعديل ما يسمى بنظرية “السياسة الخارجية” الروسية، وعزا ذلك إلى التغيرات الخطيرة الجارية على المسرح العالمي، وطالب بضرورة تعديل الوثائق الاستراتيجية الرئيسية، لأن المفهوم الجديد سوف يكون أساساً للإجراءات العملية للبلاد على المدى المتوسط والطويل، وسيصبح أيضاً أساساً عقائدياً سليماً لمزيد من العمل في مجال العلاقات الدولية، أما الأحكام الرئيسية لهذا المفهوم الجديد، فتتلخص في أن “روسيا لا تعتبر نفسها عدواً للغرب ولا تنعزل عنه، وليست لديها نوايا عدائية”.
كذلك أعلن الرئيس الروسي أن واشنطن هي المصدر الرئيس للأخطار التي تهدد أمنها والسلام الدولي، فيما كشف عن أولوياته بقوله إن الأولوية ستكون “القضاء على بقايا الهيمنة الأميركية في العالم”.
وتوقف الرئيس بوتين عند أن موسكو تعول على إدراك الدول الغربية لضرورة التوصل إلى السلام، وعدم جدوى المواجهة والعودة إلى “التفاعل المتكافئ”، واعتباره ضماناً للأمن والاستقرار لجميع البلدان على أساس مبدأ المعاملة بالمثل، وذلك كله هو ما أودعه مذكرتيه اللتين بعث بهما إلى كل من الإدارة الأميركية والناتو في نهاية عام 2021 قبيل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.
وأكد الرئيس الروسي أولوية توجهاته وإدراكه لأهمية تعميق العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع الصين والهند، وأعلن عن “ضرورة إيلاء اهتمام خاص لتوسيع العلاقات مع الشركاء ذوي التفكير البناء وتهيئة الظروف للدول غير الصديقة للتخلي عن سياساتها المناهضة لروسيا”. وأكد أن وزارة الخارجية هي التي ستقوم بتنسيق تنفيذ كل ما أشار إليه من مهام أودعها متن “نظرية السياسة الخارجية” الروسية في صياغتها الجديدة.
وكان عميد الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف أوضح هذه المهام فيما أشار إليه حول “الاتجاهات الرئيسة بعيدة المدى في التنمية الدولية”، بما في ذلك أزمة العولمة الاقتصادية، التي تم تنفيذها حتى وقت قريب وفقاً للقواعد الأميركية. وإذ أكد أن أحد عوامل كل ذلك يكمن في أن الاقتصاد العالمي يخضع لعملية إعادة هيكلة كبيرة، قال لافروف “إن روسيا تنتقل إلى أساس تكنولوجي جديد”.
مستقبل الصراع في أوكرانيا
يرى مراقبون أميركيون أن الصراع يتراوح بين ما يجري داخل الساحة الأوكرانية من جانب، وبين ذلك الصراع الذي يجري بين روسيا وأوكرانيا وحلفائها الغربيين، من جانب آخر، وثمة من يقول إن الأمرين مترابطان على نحو جدلي، فالصراع الداخلي وإن لم يصل بعد ذروته، إلا أن هناك من الشواهد ما يقول بقرب تصاعده.
وقد شهدت الأيام الأخيرة استقالة ستة من كبار المسؤولين في الحكومة الأوكرانية، وهو ما كشف عنه ديفيد أراخاميا رئيس الكتلة البرلمانية للحزب الحاكم، كذلك فإن هناك من يتحدث عن احتمالات رحيل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قسراً أو طواعية، بل وهناك من أشار إلى احتمالات اغتياله. وكانت أجهزة الأمن الأوكراني كشفت في مايو (أيار) الماضي، عن مخطط يستهدف التصفية الجسدية لعدد من قيادات النظام في أوكرانيا ومنهم فلاديمير زيلينسكي.
أما عن مستقبل الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فهناك من يربط بينه وبين نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة في نوفمبر (تشرين الأول) المقبل، ومدى ما يمكن أن يتحقق من استمرار المعونات الغربية إلى أوكرانيا، بينما لا يزال هناك من تراوده الآمال في رحيل بوتين عن منصبه، وهو ما وصفه مراقبون بأنه “أضغاث أحلام”. إلا أن الواضح والمؤكد يظل وكما كان منذ بداية العملية العسكرية، يتمثل في أن روسيا ستظل عند موقفها تجاه الاستمرار في الحرب حتى تحقيق “النصر النهائي”.
وتتباين سيناريوهات هذه العملية بقدر تباين أصحابها، ونقلت قناة “روسيا اليوم” عن فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية والرئيس الحالي لدورة مجلس الاتحاد الأوروبي ما قاله في رسالته إلى شارل ميشيل رئيس المجلس الأوروبي حول نتائج “مهمة السلام” التي قام بها إلى كل من أوكرانيا وروسيا والصين، وقال فيها إن حدة الصراع في أوكرانيا ستتزايد بشكل أكثر حدة في المستقبل القريب نظراً لأن كلا الطرفين المتحاربين يعتزمان مواصلة الأعمال العسكرية”.
وذلك ما تحقق بالفعل منذ نجاح القوات الأوكرانية في الاستيلاء على بعض أراضي مقاطعة كورسك المتاخمة للحدود الروسية- الأوكرانية، وهو أيضاً ما دفع الجانب الروسي إلى التراجع عن أية مفاوضات سلام مع النظام الأوكراني، وإعلان تصميمه على المضي قدماً إلى ما هو أبعد من تحرير المناطق الروسية التي احتلتها أوكرانيا، لاستكمال تحرير ما بقي من أراضي المقاطعات الأربع التي انضمت إلى روسيا في سبتمبر (أيلول) 2022.
أما عن بقية السيناريوهات المحتملة فقد “علكتها” مختلف وسائل الإعلام الغربية، وتظل في معظم جوانبها اجتهادات خبراء ومسؤولين، قابلة للخطأ والصواب، ومنها ما نشرته مجلة السياسة الخارجية الأميركية تحت عنوان “بوتين لن يستسلم أبداً في أوكرانيا”. وخلص كاتب المقال بيتر شرويدر إلى أن بوتين غير قابل للإقناع ومتمسك بكل شيء، بما في ذلك منع الغرب من السيطرة على أوكرانيا لتكون معقلاُ لاستخدامه لتهديد روسيا، وذلك يشكل ضرورة استراتيجية تستحق أي تكلفة، فضلاً عن أن “محاولات إرغامه على الاستسلام ممارسات عقيمة لا جدوى من ورائها”.