أوربان و«الدبلوماسية غير المتوقعة» للسلام فى أوكرانيا
رسالة موسكو د. سامى عمارة
يواصل فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية جهوده التى لم تتوقف منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية فى عام 2014، من أجل إيجاد الحلول الوسط التى تجمع بين «الشقيقين السلافيين». وها هو يعود مرة أخرى إلى هذه القضية، بقوله إن المجر ستواصل جعل «المبادرات الدبلوماسية غير المتوقعة»، أقرب إلى السلام فى أوكرانيا.
وعلى الرغم من المقاومة الضارية التى يواجهها أوربان من جانب الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى وعدد من بلدان الاتحاد الأوروبي، يظل الزعيم المجرى عند إصراره على المضى فى ذات الطريق، مؤكدا «أن فى جعبته عددا قليلا من البطاقات الرابحة الأخرى لـ«مهمة حفظ السلام»، وإن لم يكشف بعد عن الخطوات التى سيتم اتخاذها.
وما أن تولى فيكتور أوربان رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبى فى دورته الحالية التى بدأت اعتباراً من مطلع يوليو الماضي، حتى استهل نشاطه ودون تفويض من نظرائه فى الاتحاد الأوروبي، بما وصفها بـ«مهام السلام» التى التقى خلالها مع كل من الرئيس الروسى فولوديمير بوتين، والرئيس الصينى شى جين بينغ فى بكين والمرشح الرئاسى الجمهورى دونالد ترامب فى منتجعه مار لاغو فى فلوريدا،
والرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى فى كييف التى زارها لأول مرة منذ قرابة 12 عاما رغم الحدود المشتركة التى تجمع البلدين. وذلك ما أثار موجة واسعة من الانتقادات لدى «غرماء» روسيا ورئيسها، ودفع العديد من بلدان الاتحاد الأوروبي، وكذلك المفوضية الأوروبية، إلى مقاطعة كل الفعاليات التى عقدتها المجر كجزء من رئاستها للتحالف الأوروبى لمدة ستة أشهر.
وهكذا تسببت السياسة المستقلة للمجر ورئيس حكومتها فى تأليب قادة الاتحاد الأوروبي، وأنصار استمرار الحرب فى أوكرانيا وتحديدا حلفاء واشنطن فى عدائها لروسيا وقيادتها، فى تأليب كل هؤلاء ضد فيكتور أوربان.
واتخذت أورسولا فون دير لاين قرار إلغاء زيارتها لبودابست، وقامت بتخفيض مستوى التمثيل فى الاجتماعات غير الرسمية لمجلس الاتحاد الأوروبى التى تتولى المجر رئاسته الدورية حتى نهاية العام الجاري. وذلك كله رغم أن أورسولا فون دير لاين وبحكم مهام منصبها لا تملك الحق فى اختيار وتحديد من تتعاون معه.
وعاد أوربان مُعْلِنا عما وصفه «بالدبلوماسية المتوقعة»، فى محاولة للحيلولة دون ما قد يفضى بالعالم إلى «حرب عالمية ثالثة». وكان الرئيس بوتين قد كشف عما يدور من مناقشات بين الولايات المتحدة وبلدان حلف الناتو حول احتمال استخدام كييف للأسلحة الصاروخية الغربية بعيدة المدي. وقال بوتين إنه «من غير الممكن تنفيذ المهام الجوية لهذه الأنظمة الصاروخية إلا من قبل أفراد عسكريين من دول الناتو، وهو ما جرى ربطه بما سبق من تهديدات حول احتمالات استخدام روسيا لأسلحتها النووية. ولذا فإن الأمر لا يتعلق بالسماح للنظام الأوكرانى بضرب روسيا بهذه الأسلحة أو عدم السماح وحسب، بل إنه يعنى وفى حال اتخاذ هذا القرار، المشاركة المباشرة لدول الناتو فى الحرب فى أوكرانيا».
وفى الوقت الذى تختلط فيه المعايير التقليدية، وتضيع مفاهيم الحرب والسلام بين أهواء الساسة ورؤساء الدول والحكومات، ويصعب التفرقة والتمييز بين ممثلى اليمين واليسار ،لصالح تجار الحروب والمستفيدين من تأجيج نيرانها، يبرز إلى الصدارة مفهوم السيادة الوطنية، الذى يمثله اليوم فيكتور أوربان، على حد تعبير داريا مويسييفا كبير الباحثين لدى جامعة العلاقات الدولية بموسكو. ومن هنا يبقى الأمر مرتبطا بمدى ما يمكن أن تقوم به المجموعة السياسية الجديدة التى جاءت إلى البرلمان الأوروبى بعد انتخاباته الأخيرة.
وثمة من يقول إن هذه المجموعة تملك اليوم فرصة التحول إلى معارضة نظامية، قد يكون نواتها تحالف فيكتور أوربان «الوطنيون من أجل أوروبا» الذى يمثل القوة الثالثة فى البرلمان الأوروبي.
وذلك ما لابد ان يلقى معارضة قيادة الاتحاد الأوروبي، وأنصار العقوبات فى حق فيكتور أوربان ومن يسير فى ركاب سياساته وتوجهاته. ويذكر المراقبون انه وبعد بولندا، بدأ أصحاب المصلحة فى الاتحاد الأوروبي، التفكير فى تطبيق ما تستوجبه المادة السابعة من معاهدة الاتحاد الأوروبى من عقوبات بسبب قضايا تتعلق باستقلال القضاء وحرية التعبير والفساد وحقوق الأقليات ووضع المهاجرين واللاجئين.
وذلك ما سبق مناقشته فى الاتحاد الأوروبى الذى أعلن رفضه لدستور المجر فى صياغته الأخيرة، وكذلك ما فرضته من قيود صارمة بشأن الهجرة غير الشرعية فى 2015-2016. وعلى العكس من النتيجة التى توقعها أصحاب سياسات الضغوط والعقوبات، وعلى حد تقديرات مراقبين كُثُر، يتحول أوربان إلى رمز للشعبية والسيادة الوطنية التى لطالما غابت عن أولويات السياسة العليا.
وننقل عن داريا مويسييفا فى موسكو ما قالته حول أن الأزمات التى واجهها الاتحاد الأوروبى على مدى السنوات الماضية، والوسائل التى تعامل بها معها، أدت إلى تكثيف المطالبة العامة بإعادة السلطة والسيطرة إلى الحكومات الوطنية، والتي أشارت إلى بريطانيا كمثال صارخ على ذلك.
وبينما كشفت الانتخابات الأخيرة فى بلدان الاتحاد الأوروبى عن مدى صدق ذلك التوجه، تناولت الباحثة الروسية عددا من أكبر الأحزاب الأوروبية التى تنادى بما رفعه فيكتور أوربان وحزبه «فيديس» فى المجر من شعارات عادت لتحمله إلى صدارة الحياة السياسية فى بلاده.
ومن أكبر هذه الأحزاب الأوروبية وأكثرها نجاحا، حزب إخوان إيطاليا بقيادة رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني، وحزب إيطالى آخر هو حزب الرابطة، وحزب التجمع الوطنى الفرنسى الذى أظهر نتائج مبهرة فى الانتخابات، وكذلك حزبا ديمقراطيو السويد والبديل من أجل ألمانيا».
خلصت داريا مويسييفا فى نهاية تقريرها العلمى إلى أنه « إذا لعب الشعبويون على الألم اللحظى للناخب، ومهما كان، فإن البرنامج الأيديولوجى للسيادة يكون أكثر ديمومة ويكمن فى عودة السيادة بمعناها التقليدي، حيث تبدو السيادة مصدرًا للأمن والشرط الرئيسي. لتحقيق المصالح الوطنية بما يتماشى مع الواقعية»، وهو ما نشهد تبعاته وآثاره اليوم فى عدد من بلدان الاتحاد الأوروبي، ولا سيما فى المجر وبولندا وسلوفاكيا وتشيكيا التى شكلت معا وبمبادرة من بودابست، مجموعة «فيشجراد».