عبد الفتـــــاح الجبـــــالى :
الدعم النقدى ضرورة.. ولكن!!
«سأتذكر دائما أن وراء الأرقام بشرا لهم احتياجات وطموحات وأحلام» تلك هى المقولة الأساسية التى لاينبغى أن تغيب عن الأذهان ونحن نناقش القضايا الإقتصادية عموما والإجتماعية منها على وجه الخصوص وفى القلب منها سياسة الدعم.
فلاينبغى النظر إلى تكلفة الحماية الإجتماعية على أنها عبء لا يطاق، إذ يجب علينا أن نستعيد الجانب الأخلاقى للفكر الإقتصادى الذى يرى ضرورة التركيز فى صنع السياسات العامة على مفهوم «المصلحة العامة». فالدعم ضرورة اقتصادية وليس فقط مسألة إجتماعية أو سياسية. لأنه يضمن الحفاظ على مستوى معيشة الفقراء ومحدودى الدخل.
ويتفق الجميع على أن الدعم بوضعه الحالى لا يحقق الأهداف المنوطة به. فمن جهة هناك شرائح كثيرة لا تستحق الدعم وتحصل عليه. إذ يشير بحث الدخل والإنفاق عن عام 2019/2020 إلى أن 72.7% من الشريحة العليا لديهم بطاقة تموينية وأن 80.6% من الشريحة التاسعة.
بينما وعلى الجانب الآخر هناك نسبة كبيرة ممن يستحقون الدعم لا يحصلون عليه فنحو 20% فقط من الفقراء يحصلون على تكافل وكرامة. ويمثل ما تحصل عليه الأسرة فى الشريحة الدنيا من الإنفاق، من دعم للسلع الغذائية نحو 15.5% من إجمالى استهلاكها من الغذاء، والشريحة الأخرى تصل إلى 13.3% مقابل 6.2% فى الشريحة الأعلى.
وتختلف هذه النسبة وفقا لنوع السلعة. هذا مع ملاحظة أن الشريحة الثانية، فيما يمكن اعتبارها الطبقة المتوسطة الدنيا، هى الأكثر استفادة من نظام البطاقات التموينية بوضعها الحالي. هذا فضلا عما يتسم به هذا النظام من عدم جودة السلع المدعمة وعدم كفاية الحصص المقررة بالبطاقات، فضلا عن عدم دعم كل السلع الأساسية التى يحتاجها الفقراء.
يضاف إلى ما سبق العديد من المشكلات منها عدم توافر بعض السلع المتضمنة فى البطاقة (بشكل دوري)، وسوء معاملة البدالين التموينيين. فضلا عن سوء إستخدام السلع المدعمة، خاصة فى ظل الإستخدامات المختلفة للسلعة الواحدة،
فمثلا الديزل يستخدم كمولد للطاقة فى فنادق البحر الأحمر وأيضا يستخدمه الفلاح البسيط، وتسرب جزء كبير منها إلى غير الغرض المخصصة له.
المشكلة الثالثة الناجمة عن هذا النظام تتعلق بما يؤدى إليه من التعدد فى أسعار السلعة الواحدة فى المجتمع، والأهم من ذلك أنه لا يتيح للأفراد الحرية فى اختيار السلع المستهلكة. يضاف إلى ذلك أن الكيانات الإقتصادية التى تقوم بتقديم السلع المدعمة قد اتخذت الدعم ستارا لعدم الكفاءة الإقتصادية والإنتاجية والإدارية وعدم المبالاة بتخفيض تكاليف الإنتاج، لأنها لاتحاسب على أسس اقتصادية، الأمر الذى أدى إلى هدر كبير فى الموارد.
فالأصل أن تتم كل حسابات الإنتاج على أسس اقتصادية سليمة تعكس التكلفة الحقيقة للسلعة، على أن تتحمل الخزانة العامة فرق سعر البيع للمستهلك. فمن الخطأ الجسيم القول بأن اعتبارات العدالة الاجتماعية تتعارض مع ضرورات الكفاءة الإقتصادية إذ إن الاثنين يسيران معا جنبا إلى جنب.
من هنا تأتى أهمية إعادة النظر فى السياسة لقصرها على من يستحق الدعم فقط، واستبعاد غيرهم وهذا توجه محمود ومطلوب.
وعلى الرغم من اتفاقنا التام مع هذه المسألة فإن الموضوع ليس بالبساطة التى يمكن أن يتصورها البعض، خاصة أن الدعم العينى المقدم عبر البطاقات التموينية لايزال يوفر الحد الأدنى من الأمن الغذائى للفقراء. مع ملاحظة أن الفقراء والطبقة المتوسطة الدنيا هما الأكثر استفادة من هذا النظام بوضعه الحالى.
من هذا المنطلق فإن الحديث عن إصلاح الدعم يجب ألا يرتبط بعجز الموازنة العامة للدولة لعدة أسباب يأتى على رأسها أن عجز الموازنة ظاهرة معقدة ومركبة لا يمكن تفسيرها بعامل واحد فقط، بل عبر حزمة من العوامل المتشابكة أدت إلى تفاقم العجز، الأمر الذى يتطلب الدراسة المتأنية والدقيقة لجميع بنود الإيرادات والنفقات للوصول إلى أفضل السبل فى علاج هذه الاختلالات.
وثانيا أن نسبة الدعم إلى المصروفات العامة قد تراجعت من 27.7% عام 2010/2011 إلى 9.6% فى موازنة العام الحالي. بينما النسبة الغالبة تذهب إلى فوائد الدين التى إرتفعت من 21.2% إلى 47.4% خلال الفترة نفسها.
من هذا المنطلق يجب عدم الخلط بين الدعم والدور الإجتماعى للدولة، كما يظهر فى الإنفاق العام على بعض الجوانب الإجتماعية كالصحة والتعليم. إذ إن الإنفاق العام على هذه القطاعات يزيد من رأس المال البشرى وبالتالى يعد بمنزلة استثمار قومى جيد يقوم بتغطية تكاليفه من خلال زيادة الإنتاجية وزيادة الدخول.
ومع تسليمنا الكامل بأنه لابد من الإستمرار فى هذه السياسة، حيث لا تزال تشكل ضرورة ملحة بالنسبة لمستويات الدخول فى مصر وبالتالى ينبغى العمل على استمرار هذه السياسة من حيث المبدأ. لكل هذه الأسباب تظل المشكلة الأساسية هى كيفية تحديد الفئات المستحقة للدعم والمعايير التى يمكن استخدامها لتحقيق هذا الهدف.
وبالتالى، يجب العمل أولا على إعادة تعريف مستحقى الدعم والوصول به إلى مستحقيه فقط، مع ما يتطلبه ذلك من إعادة لترتيب أولويات وأدوات الدعم بشكل يضمن انحيازه للفقراء وهكذا، يجب وضع القضية فى مسارها الصحيح، وتناولها من منظور أشمل ألا وهو العدالة الإجتماعية، أو على الأقل الحماية الإجتماعية.
وهو ما يتطلب التحرك على محورين، أحدهما قصير الأجل ويرتكز على ضرورة الإستمرار فى سياسة الدعم التى لاتزال تشكل ضرورة ملحة بالنسبة للفقراء، وبالتالى ينبغى العمل على استمراره كمبدأ. والعمل على تعظيم العائد منه، مع التوسع فى برامج الحماية الإجتماعية القائمة مثل تكافل وكرامة ومعاشات الضمان الإجتماعي.
والإستمرار فى البرامج الإجتماعية ذات المردود السريع على الفقراء والإسراع بها، خاصة تطوير المناطق العشوائية والإسكان الاجتماعي. جنبا إلى جنب مع توفير المستلزمات الطبية وتوفيرالأدوية وألبان الأطفال ومستلزمات الوحدات الصحية، مع تشجيع إنشاء المشاريع الاستثمارية فى صعيد مصر، وكلها أمور تتطلب توحيد الجهود المشتتة بين وزارات وقطاعات الدولة المختلفة.
وفى الأجل الطويل يجب التركيز على إخراج الفقراء من دائرة الفقر عن طريق إكسابهم المهارات والقدرات اللازمة للحصول على الكسب الجيد والخروج من دائرة الفقر، وهو ما يتطلب اتباع إستراتيجية تنموية تركز على النمو الإحتوائى المتواصل. وهى مسألة يجب أن تتم فى إطار رؤية تنموية متكاملة، ومن منظور شامل وواسع.