دولة مارقة وأخرى أكثر انحطاطًا؟!
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
kgaballa@ahram.org.eg
فجأة وبدون أية مقدمات، تلبدت سماء شبه الجزيرة الكورية بغيوم قاتمة من التوتر والاحتقان، نتيجة لاشتباكات كلامية متبادلة، بين كل من واشنطن وبيونج يانج، من عينة، وصف الأولى للثانية بأنها دولة مارقة، ليأتيها الرد بأنها هي الأكثر انحطاطًا.
بداية، كان المشهد في شبه الجزيرة -وبالدول المجاورة لها- مستنفرًا ومنهمكًا في مسعى حثيث لفهم مغزى ومعنى تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأنه وزعيم كوريا الشمالية، كيم جونج أون، “كانا على وفاق تام”، ووصفه لـ بيونج يانج بأنها “قوة نووية”، وهو ما أثار-في حينه- العديد من التكهنات والتنبؤات، وإعادة الحسابات، وترتيب الأوراق، بما يتناسب مع الساكن الجديد للبيت الأبيض.
كوريا الشمالية التزمت الصمت، ولم تعر اهتمامًا لتصريحات ترامب، عقب عودته للمكتب البيضاوي، وقيامه بتوقيع وثائق بعد تنصيبه، ومغازلته العلنية للزعيم كيم، بقوله مثلا: “إنه رجل ذكي.. كنت ودودًا للغاية معه.. لقد أحبني.. لقد أحببته.. لقد كنا على وفاق تام.. إنه قوة نووية.. أعتقد أنه سيكون سعيدًا برؤية عودتي”.
أيضًا، تجاهل اجتماع مهم لمجلس الشعب الكوري الشمالي الأعلى توجيه أية رسائل إلى إدارة الرئيس ترامب، وإمكانية استئناف المحادثات الثنائية مع واشنطن، وأقر المجلس “تسريع التغييرات المهمة في القدرات الدفاعية الوطنية”.
في وقت لاحق، وإصرارًا على استخدام لغة المواجهة -وليس التصالح- مع واشنطن، أعلنت بيونج يانج أنها لن تسمح باختلال التوازن في القوة، وستحافظ على أشد الإجراءات المضادة للولايات المتحدة، ما دامت ترفض الإقرار بسيادتها وبمصالحها الأمنية، ولضمان السلام والاستقرار بشبه الجزيرة الكورية، وفي المنطقة بالكامل.
التجاهل الفاضح لمغازلة ترامب -العلنية- للزعيم، بدت ذروته في قيام كيم جونج أون بتفقد قاعدة لإنتاج الأسلحة النووية، وقوله نصًا: “إن الوضع الأمني والخارجي في كوريا الشمالية لا يزال خطيرًا، ولا مفر من المواجهة -طويلة الأمد- مع أكثر الدول المعادية شراسة، مما يتطلب تعزيز الردع النووي باطراد، وضمان الإفراط في تنفيذ خطة إنتاج المواد النووية، الصالحة لصنع الأسلحة، وتعزيز الدرع النووي للبلاد”.
فيما يبدو فقد بدت سول متفاجئة بإشارة ترامب العلنية لكوريا الشمالية باعتبارها قوة نووية، وقد سبقه في الإشارة -نفسها- وزير دفاعه، بيت هيجست، حين تقديمه إجابة مكتوبة للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، قبل جلسة تأكيد تعيينه.
بشكل عام، تردد معظم المسئولين الأمريكيين -السابقون واللاحقون- في وصف كوريا الشمالية بأنها قوة نووية، لأن ذلك قد ينظر إليه على أنه قبول وإضفاء للشرعية على ما أسموه برنامج الأسلحة غير المشروع، وكانت التوقعات السائدة في العاصمة الكورية الجنوبية، سول، تنحصر في أن الرئيس الأمريكي قد يسعى لإحياء الدبلوماسية النووية مع كيم، بعد انهيارها عقب قمة هانوي عام 2019.
لذلك، أصدرت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية بيانًا في غاية الأهمية، جاء فيه نصا: “إن نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية مبدأ يؤيده المجتمع الدولي بقوة، بما في ذلك كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وبموجب معاهدة منع الانتشار النووي، لا يمكن أبدًا الاعتراف بكوريا الشمالية كدولة مسلحة نوويا”.
أكدت الخارجية الجنوبية: “سنواصل العمل -بشكل وثيق- مع الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية، مع الحفاظ على التعاون مع المجتمع الدولي بشأن هذه القضية”. في الوقت نفسه، أعلنت وزارة الدفاع الجنوبية أن نزع السلاح النووي في الشمال يظل شرطًا أساسيًا لتحقيق السلام والاستقرار الدائمين في المنطقة وخارجها. أما وزارة الوحدة فقد ذكرت أن سول وواشنطن حافظتا على موقف موحد بشأن نزع السلاح النووي في كوريا الشمالية.
على الصعيد الشعبي، تصاعدت الدعوات داخل الشطر الجنوبي للتسلح النووي، بعد أن وصف الرئيس ترامب لكوريا الشمالية بأنها قوة نووية، وقالت النائبة نا كيونج وان على وسائل التواصل الاجتماعي: “إن الوقت قد حان لتتسلح سول بالأسلحة النووية، وسط احتمال سعي إدارة ترامب إلى عقد صفقة نووية مع بيونج يانج، وأن سول يمكن أن تحقق توازن القوى من خلال امتلاك ترسانتها النووية الخاصة بها، مؤكدة أنه سيكون تسلحًا نوويًا سلميًا، يهدف إلى نزع سلاح بيونج يانج.
في السياق نفسه، أعلن عمدة ديجو، هونج جون بيو، أن السعي إلى حل دبلوماسي لنزع السلاح النووي الشمالي أصبح غير واقعي، وأن إنكار امتلاك بيونج يانج أسلحة نووية هو سياسة غير مناسبة، ودعا إلى تحقيق التوازن النووي بين الكوريتين، لتحرير كوريا الجنوبية من الخضوع لتهديدات كوريا الشمالية النووية.
معروف أنه بموجب معاهدة منع الانتشار، يتم الاعتراف بخمس دول فقط كدول مسلحة نوويا، وهي: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، وفرنسا، والصين، وقد انضمت كوريا الشمالية إلى المعاهدة في عام 1985، ولكنها انسحبت منها في عام 2003، بعد أن اتهمت واشنطن النظام الشمالي، بمواصلة برنامج سري لتخصيب اليورانيوم، في انتهاك لاتفاقهما الثنائي، بشأن تجميد برامجها النووية.
إقليميًا، لوحظ أن البيان الصادر عن الاجتماع الأخير لوزراء خارجية المجموعة الرباعية، كواد، التي تضم كلًا من الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا، لم يتضمن التأكيد على الالتزام بنزع السلاح النووي بالكامل من كوريا الشمالية، وهو ما كان بندا ثابتا في البيانات السابقة، وجاء البيان الختامي في فقرتين فقط، ولم يذكر دولا محددة مثل الصين أو كوريا الشمالية، وأعرب عن التزام الدول الأعضاء بتعزيز الحرية والانفتاح في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والمعارضة القوية لأي “إجراءات أحادية الجانب، تسعى إلى تغيير الوضع الراهن بالقوة أو الإكراه”.
أيضًا، أعلن نائب السفير الصيني لدى الأمم المتحدة، جينج شوانج، أمام جلسة أخيرة لمجلس الأمن بأن بكين نفذت -دائمًا وبأمانة- القرارات الدولية المتعلقة بكوريا الشمالية، وتفي بالتزاماتها الدولية الواجبة عليها، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة زادت -بشكل كبير- من وجودها العسكري في شبه الجزيرة الكورية، وفي المناطق المجاورة لها، مما أدى إلى تقويض خطير للمصالح الإستراتيجية لدول المنطقة.
أمام الجلسة ذاتها، أدان السفير الياباني لدى الأمم المتحدة، يامازاكي كازويوكي، امتلاك كوريا الشمالية لبرامج صاروخية ونووية، مؤكدًا أنها تتصل -بشكل أساسي- بمنع الانتشار النووي، وبما يستوجب اتخاذ إجراءات رادعة ضد بيونج يانج.
من جانبه، ذكر السفير الروسي، فاسيلي نيبينزيا، أن كوريا الشمالية لديها الحق في تنفيذ التدابير اللازمة لضمان أمنها، ورفض الادعاءات بأن موسكو تخطط لمشاركة تكنولوجيا الفضاء والأقمار الاصطناعية المتقدمة مع بيونج يانج.