حمد باشا الباسل.. شيخ العرب والوطنيين المصريين
عبدالله المدني يكتب عن حمد باشا الباسل الذي تبرع بقصره ليكون أول سفارة للسعودية في القاهرة
في أثناء قراءاتي في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وقع نظري على اسم أحد زعمائها الكبار المنسيين.
يقول الكاتب المصري «عزت أندراوس» في مقال له منشور في صفحته في «فيسبوك» إن أول اجتماع لحزب الوفد عقد بمنزل حمد باشا بالقاهرة، والذي تبرع به في ما بعد ليكون أول مقر لسفارة المملكة العربية السعودية بمصر
ولعل ما أثار فضولي ودفعني للبحث عن سيرته أن اسمه الأول هو حمد.
وحمد اسم علم كثير الاستعمال في الخليج والجزيرة العربية والعراق، ولكنه غير شائع عند المصريين المسلمين الذين يفضلون عليه اسمي أحمد ومحمد لأبنائهم الذكور.
ومثلما توقعت، تبين أن أصول هذا الزعيم المصري الوطني يعود إلى شمالي الجزيرة العربية، وأن عائلته تنتمي إلى آل زيدان من الفوايد من قبيلة الرماح التي هي بطن من بطون بني سليم من العرب العدنانية القيسية في جهات الحجاز، والتي وصلت قديماً إلى مصر ومن ثم تفرعت وذهب قسم منها إلى ولاية طرابلس الليبية، قبل أن يعودوا إلى مصر في أوائل القرن 18 الميلادي ويستقروا في محافظة البحيرة.

وفي منتصف القرن 19 نزحوا منها إلى قرية «أبو حامد» (مركز إطسا بالفيوم) التي عرفت لاحقاً بـ«قصر الباسل»، بعدما بنى حمد باشا الباسل قصره بها في سنة 1907، وهو قصر جدده في سنة 1939 بمناسبة زيارة الملك فاروق لافتتاح مشروع للمياه بالفيوم.
وبالمزيد من البحث والتنقيب، وجدت أن «حمد باشا الباسل» (المترجم له) ربطته وشائج قوية بأبناء جلدته العرب، فكانت له رحلات إلى سوريا والحجاز والعراق، واتصالات مع مشايخ قبائلها، وجهود طيبة في حل الخلافات بينهم درءاً للفتن، ولا سيما في العراق الذي سافر إليه في سنة 1939 للقاء شيخ مشائخ شمر عجيل باشا الياور بقصد حل الخلافات بين الأخير ونظرائه من مشائخ عراقيين.
كما طاف بدول أوروبا، وتكررت زياراته إلى باريس ولندن لأغراض السياحة أو العمل السياسي، وخصوصاً أنه كان يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية بطلاقة كأبنائها لأن والده وفر له معلمتين خصوصيتين لتعليمه هاتين اللغتين اللتين كانتا قديماً من شروط الارتقاء إلى المناصب العليا في مصر.
ولعل سر اهتمامه بالعراق تحديداً، وجود أعداد كبيرة من قبيلة الرماح وأفخاذها فيه ممن ينتسبون إلى الرماح بن فرج بن علي الشيباني البكري، وينتشرون في محافظات العراق الوسطى والجنوبية.
كان حمد باشا يفتخر دوماً بأن أجداده من عواتك بني سليم الذين دخل منهم نحو ألف فارس مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة لفتحها.
ولكنه كان يفتخر أيضاً بدوره الشخصي في الحركة الوطنية المصرية وثورة سنة 1919 وتأسيس حزب الوفد إلى جانب سعد باشا زغلول.
ومن محاسن الصدف أن هذا الرجل الذي طاله النسيان طويلاً قياساً بزملائه صدر عنه في سبتمبر من سنة 2020 كتاب بعنوان «المناضل العربي الكبير شيخ العرب حمد باشا الباسل زعيم ثورة 1919» لمؤلفه الدكتور أيمن عبدالعظيم رحيم، وهو كتاب سنعتمد عليه هنا بصورة رئيسة لسرد سيرته ومآثره الكثيرة وجهوده الخيرة وجهود أسرته الكريمة في سبيل مصر، مع تطعيمها (كلما لزم الأمر) بمعلومات وإيضاحات إضافية من مصادر صحفية مختلفة، ولا سيما حوار أجرته صحيفة «الوطن» المصرية (8/3/2019) مع حفيده النائب الوفدي عبدالعظيم الباسل.
ولد «حمد باشا الباسل» بمحافظة الفيوم في سنة 1871، ابناً لوالده شيخ العرب محمود الباسل ابن شيخ العرب محمد الباسل.
ولما توفي والده في سنة 1880 أمر الخديوي توفيق بتعيينه استثناء عمدة لقبيلة الرماح وهو في العاشرة من عمره، وذلك مكافأة لما قام به والده من خدمات للحكومة المصرية. غير أنه تخلى عن العمودية في في سنة 1909 لأخيه عبدالستار بك الباسل، وهذا الأخير كان قد تلقى دراسته بمدرسة الفيوم الأميرية، وألم باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وعمل في إدارة الشؤون الزراعية لأسرته وتزوج كريمة العالم الكبير حفني بك ناصف، الأديبة والشاعرة المعروفة ملك حفني ناصف الملقبة بـ«باحثة البادية».
انتخب حمد باشا في في سنة 1909 عضواً في لجنة النفي الإداري بمديرية الفيوم، وفي العام التالي عين في لجنة تعداد العربان، وفي سنة 1911 تم تعيينه في مجلس المديرية كونه شخصية معروفة ومن كبار ملاك الأراضي الزراعية، ناهيك عن أن الرجل كان قد أقدم مع عدد من الأعيان في سنة 1909 على تجربة فريدة من نوعها آنذاك.
ولم تكن هذه التجربة، التي تم الإعلان عنها بجريدة الأهرام، سوى تشكيل مجلس نيابي مستقل عن الحكومة، فلم تكن الحياة النيابية آنذاك قد بدأت في مصر.
وضم المجلس 20 عضواً برئاسة طلبة باشا سعودي، واختير حمد باشا وكيلاً له.
وقبل الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في سنة 1913 بدأت الحياة النيابية في مصر بتأسيس «الجمعية التشريعية»، فتم انتخاب حمد باسل مع طنطاوي بك طنطاوي والشيخ محمد علي صالح لتمثيل الفيوم في الجمعية التي كان من وظائفها إبداء الآراء غير الملزمة في القوانين الصادرة، ولكنها توقفت عن العمل بعد دور انعقاد وحيد بسبب ظروف الحرب.
وفي سنة 1914 منحه الخديوي عباس حلمي الثاني رتبة البشوية. وفي سنة 1908 التقى سعد باشا زغلول أول مرة، في أثناء زيارة الأخير للفيوم بوصفه وزيراً للمعارف آنذاك، فأعجب زغلول بحماس ووطنية الشاب حمد الباسل وشكره على قيامه بتأسيس عدد من المدارس والمعاهد في الفيوم.
وفي سنة 1918م انضم حمد الباسل إلى سعد زغلول لتشكيل حزب الوفد بزعامة الأول، فأنفق على تأسيسه من ماله الخاص.
وبعد تفويض الشعب للحزب بتحرير البلاد من الاستعمار، بدأت السلطات الإنجليزية بتضييق الخناق على زعماء الحزب وحظرت عقد الندوات والمؤتمرات.
ولأن منزل حمد باشا بمنطقة قصر النيل في القاهرة كان يستضيف بعض هذه اللقاءات الحزبية، فقد تم القبض عليه مع رفاقه من الوطنيين المصريين ومحاكمتهم ونفيهم إلى جزيرة مالطة أولاً ثم جزيرة سيشل لاحقاً.
وهو العمل الذي أطلق شرارة ثورة سنة 1919 في كل أرجاء مصر، بدءاً من الفيوم التي ما إن سمع أهلها نبأ اعتقال ونفي الباسل إلا وتوجهوا إلى مركز شرطة إطسا وأسروا مأمورها الإنجليزي، لتشتعل الاحتجاجات وتمتد لباقي المحافظات المصرية.
وبعد عودته من منفاه في سيشل، تم القبض عليه مع سبعة من رفاقه (أطلق الشعب عليهم اسم الأسود السبعة)، بتهمة التحريض على تخريب اقتصاد البلاد، فكان الباسل أحد مشجعي بنك مصر، الذي أسسه طلعت حرب، كما اتُهموا بالحض على كراهية السلطات، فما كان من حمد باشا إلا أن قال وقتها عبارته الشهيرة «أنتم تحاكموننا وليس لكم الحق في أن تحكمونا.. نموت نموت وتحيا مصر»، ليجري محاكمتهم ويصدر عليهم حكم بالإعدام، قبل أن يخفف الحكم إلى السجن سبع سنوات مع غرامات مالية، وقبل أن يطلق سراحهم تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية. وبسبب دور حمد باشا الوطني الناصع، قام ضباط 23 يوليو من سنة 1952 باستثنائه من مصادرة ممتلكاته.
والمعروف أنه بعد عودته مع زغلول ورفاقهما من منفاهم في مالطا في أبريل من سنة 1919 دبت الخلافات بينه وبين زغلول في التفاوض مع الإنجليز من عدمه (كان من رأيه ورأي عدد آخر من رموز حزب الوفد ضرورة السفر إلى لندن للتفاوض مع الإنجليز والقبول بما يمكن أخذه منهم، بينما كان زغلول متشدداً ويتبنى رأياً معاكساً) ولهذا قدم حمد باشا استقالته الأولى من الوفد، ولكن من دون أن يقطع صلاته بزغلول.
وسافر مع وفد مصر المشارك في محادثات باريس في شأن جلاء الإنجليز، حيث أظهر قدراته مفاوضاً شرساً وزعيماً مصرياً لا يستهان به. ترشح حمد باشا في أول انتخابات برلمانية حقيقية في مصر في سنة 1923/ 1924، وكرر ذلك في انتخابات سنة 1925 و1926، عن دائرة «أبو جندير» بالفيوم، وفاز بها، وكان طوال هذه الفترة وكيلاً للمجلس ووكيلاً لحزب الوفد (فترة غياب سعد زغلول)، ولذا أطلق عليه لقب «صاحب الوكالتين». انشق الباسل عن الوفد مرة أخرى في سنة 1932، بسبب خلافات وتباينات بين قادته، وإثر ذلك شكل حزب «7.5» الذي أطلق عليه لاحقاً اسم «الحزب السعدي»، تكريماً لسعد زغلول.
وقد شاركه في ذلك فخري عبدالنور، وعطا عفيفي، وعلي الشمسي، وفتح الله بركات، ومراد الشريعي، وعلوي الجزار، ليشتد عليه المرض بعدها بفترة، ويعتزل العمل السياسي، والحياة العامة، ويرحل عن دنيانا في التاسع من فبراير من سنة 1940.
وبهذا انطوت صفحة زعيم وطني مصري كانت له مواقف قومية وإنسانية كثيرة ومنها أنه ساند نضال الشعب الليبي ضد المستعمر الإيطالي بقيادة عمر المختار الذي تربطه به صلة قرابة، واستضاف بعض القبائل الليبية التي نزحت من بلدها إلى الفيوم، وأغدق عليها المال لتعيش معززة مكرمة، بل منحها نحو 500 فدان من أرضه لتقيم عليها وترعى مواشيها (كان من ضمن أفراد هذه القبائل الملك إدريس السنوسي الذي كانت زيجته الثانية في سنة 1955 من سيدة من قبيلة الفوايد الرماح)، وتبرع للدولة العلية العثمانية ولجمعية الهلال الأحمر المصرية، وشجع التعليم فأسس مدرسة إعدادية باسمه في زمان كان فيه التعليم بمصر مكوناً من المرحلتين الابتدائية والثانوية فقط.
ونظراً لخبرته في المجال الزراعي، فقد استدعاه حاكم السودان الإنجليزي وسردار الجيش المصري «ونغت باشا» إلى السودان، فسافر إلى هناك وقدم آراءه وخبرته للسودانيين.
كما طالت إسهاماته المجال الرياضي والاجتماعي عبر مشاركته مع آخرين في تأسيس «النادي الأهلي» المصري في سنة 1907. علاوة على ما سبق يقول الكاتب المصري «عزت أندراوس» في مقال له منشور في صفحته في «فيسبوك» إن أول اجتماع لحزب الوفد عقد بمنزل حمد باشا بالقاهرة، والذي تبرع به في ما بعد ليكون أول مقر لسفارة المملكة العربية السعودية بمصر.
أما منزله في الفيوم المعروف بقصر الباسل فقد شهد لقاءات عقدها صاحبنا مع العديد من الشخصيات العربية السياسية في مساعيه لخدمة العرب وقضاياهم ومنهم مثقال باشا الفايز رئيس وزراء الأردن حينذاك، ونوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق في تلك الفترة، وهو ما جعل عبدالرحمن عزام (أول أمين عام لجامعة الدول العربية في ما بعد) يصفه بـ«شيخ العرب»، وخصوصاً أن عزام عرفه من كثب، بل سافر معه إلى العراق في سنة 1939 في مهمته لرأب الصدع بين القبائل العراقية.
ويخبرنا أندراوس أيضاً أنه في أثناء مرور الوفد المصري بالنمسا وهو في طريقه لحضور مؤتمر الصلح بباريس تبرع حمد باشا بمبلغ 300 جنيه لإحدى الكنائس النمساوية، وهو ما دعا المسؤولين هناك لدعوته ومن معه إلى مأدبة غداء مع إمبراطور النمسا.
أما أستاذ العلوم بجامعة الفيوم د. ديهوم الباسل فقد أخبرنا أن حمد باشا هو ابن عم والده وأن الأخير تبرع بقرابة خمسة أفدنة من أراضيه بوسط مدينة الفيوم (مكان محطة سكة الحديد وقصر الثقافة حالياً) لمصلحة سكة الحديد، من أجل إنشاء خط يسهل التنقل ما بين المنيا والفيوم.
ولحمد باشا الباسل صورة شهيرة تجمعه مع الملكة ماري إيدنبورغ (1875 ــ 1938) زوجة الملك فرديناند الأول عاهل رومانيا، وملخص حكايتها أن الملكة كانت في زيارة غير رسمية لمصر وتقيم بفندق كونتيننتال المواجه لدار الأوبرا المصرية، فلفت نظرها زي وطاقية حمد باشا الذي كان جالساً في تراس الفندق، فتوقفت لتسأله عن ملابسه.
وهكذا تعارفا وتحادثا ودعاها الباشا لزيارة الفيوم ومشاهدة ما بها من آثار رومانية، فقبلت الدعوة ولكن ما حدث أن الديوان الملكي علم بالخبر ووجده مخالفاً للبروتوكول الذي يقضي بأن تكون أول دعوة للملكة الرومانية موجهة من قبل الملك فاروق.
وعليه ذهب رئيس الديوان أحمد حسنين باشا إلى الباسل حاملاً طلباً ملكياً بأن يتصل بالملكة ماري لتأجيل زيارتها، وهو ما رفضه حمد باشا قائلاً: «لا يصح أن يؤجل صاحب البيت أو يعتذر عن الدعوة».
وأخيراً فإن حمد باشا كان شاعراً يكتب الزجل وأصدر كتاباً بعنوان «منهج البداوة».