حمدي رزق
ما تيسر من سيرة العم صلاح دياب
فى الأوراق المحفوظة، الصور، والرسائل، يستنطقون الذاكرة، يترددون على مرافئ الذكرى، يطول مكوثهم أو يقصر، فعندما يطول العمر بالإنسان، يشعر أن الزمن المتبقى أمامه قليل، وأنه يقترب من النهاية، ويريد أن يقول كلماته الأخيرة، يصدر لنا سيرته الذاتية.
ولأنى عاشق صبابة للمذكرات والسير الذاتية، دومًا أتربص بسيرة ذاتية تروى غلتى لسيرة حقيقية لإنسان حقيقى يروى ما تيسر من سيرته الذاتية دون كذب أو تجمل، دون خجل أو وجل. أتشوق لسيرة عادية لا تتخفى وراء كنايات لغوية، سيرة شفافة فيها ما فيها من توفيق وإخفاق، وحب وكراهية، ووفاء وخيانات، سيرة بشرية، والقاعدة النبوية الشريفة تقول: «كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
مخاض عسير سبق ظهور مذكرات رجل الأعمال، العم صلاح دياب، المعنونة «مذكرات صلاح دياب.. هذا أنا»، عشت طرفًا منها، والرجل الحاذق يقف على حروف الكلمات يصقلها، وينظم الجمل يُنضجها على نار هادئة، ويصبر على وقائعها يريد لها الاكتمال.
رغم تدفقه اللافت على بياض الصفحات، أشتم من سطوره حيرة، رغبة فى الإفصاح، وخشية من مسّ الأعصاب العارية، العم صلاح ظل طويلًا محيرًا بين صراحة تصل إلى انكشاف، وإدغام، والإدغام فى اللغة هو مصدر الفعل «أدْغَم»، وأدْغَم الشىءَ فى الشىء: أدخله فيه، يُخبئه فى الثنايا خشية القراءة المتربصة لما بين السطور.
وظل يفكر ويفكر، يشحذ ذاكرته، وينقب فى سنوات عمره بحثًا عن درس مستفاد يفتح الطريق أمام شاب طموح، لم يركن لوظيفة تؤمن له مستقبلًا، ولم يقنط من تربص الفشل بمغامراته، ويغتبط عندما يقتنص فرصة سانحة لزيادة غلته من السعادة التى يطاردها على صفحات مذكراته الممتعة.
ما تيسر من سيرة صلاح دياب جدير بالقراءة المتعمقة، باقتناص الحكمة بين السطور الخاطفة، تخطفك للحظة والفتى الشرقاوى من «أبوحمص» يسعى إلى القاهرة طالبًا فرصة، طريقه لم يكن مرصوفًا، وتحمل مشاق الفشل، وذاق طعم النجاح، ودومًا كانت هناك فكرة تلح على ذهنه.
فيض الخاطر ما يملى على صاحب المذكرات خطوته، يُحدث نفسه، ويتحدث إليها، حتى فى أحلك اللحظات، التى كادت تعصف بزورقه الصغير فى بحر الحياة، كان يثق فى اختياراته، ولو عارضه الناس من حوله، كما يقولون قلبه دليله.
مذكرات العم صلاح دياب، وقد نبشتها سطرًا سطرًا، دروس حياتية، كيف تنهض من سقوط، وكيف ترتسم قويًّا فى أقسى حالات الضعف، ولا تقنط، ولا تبتئس، وبعد العسر يسر.
حالة صوفية نادرة تسيطر على الصفحات، فيها من الزهد والقناعة والرضا بالقسمة والنصيب والمقدر والمكتوب، لكنه فى كل لحظاته لا يستسلم قط.
حقل التجارب التى ترويها المذكرات يدفعك إلى استصلاح حقلك شخصيًّا، وترويه بماء الحياة، فتنبت من شقوق الجدب شجرة ظليلة تضلل على المحبين، وقلبه الكبير يحمل حبًّا يوزع منه على الطيبين، ويكره المتجبرين، ولكنه لا يعادى أحدًا، يتمناها دومًا بردًا وسلامًا.
الصفحات ترسم شخصية العم صلاح التى تحير البعض، ورغم بساطته، وضحكته الواسعة، يخيل للبعض أنه بئر عميق ليس له قرار، وهو صافٍ تمامًا، ما ينير بصيرته، ويلهمه الكثير من الأفكار الطازجة التى كانت زاده وزواده فى رحلة الحياة.
أثمن ما فى هذه المذكرات ما يخص أسرته الصغيرة، وكتابات الأبناء والأحفاد عن جدو صلاح، ترسمه طفلًا كبيرًا يكاد يقفز فرحًا وهو يتلقى قبلة وحضنًا من الحفيد.. أطال الله عمره، ومتّعه بالسعادة التى يرجوها دومًا.