مصطفى عبيد يكتب:
في محبة ميشال آباتي…
يُرفرف الأنقياء فى فضاءات رحبة، يمتشقون جياد الكلمة، عابرين أثقال الانتماء، مُتجاوزين قيود الوطنية الزائفة، ومُنتصرين للإنسان أينما كان. فسلامٌ عليهم وهُم يلتمسون الحق والحقيقة، ويصوبون بنادق كتاباتهم نحو القُبح، طُغيانا، واستبدادا ووحشية. يلوحون فى تعاطف للضحايا مُعتذرين مُشفقين حزانى كاعتراض إنسانى على القتل.
منهم الكاتب والصحافى الفرنسى جان ميشال آباتى، الذى أبى ضميره الغياب عن قبائح جنرالات قتلة من بلاده جرت إبان الاستعمار الفرنسى للجزائر 1830 إلى 1962.
كان الفرنسيون يحتفلون بذكرى مذبحة بشعة، نفّذها النازيون الألمان ضد قرية فرنسية صغيرة تقع وسط فرنسا، هى أورادو سور غلان فى يونيو سنة 1944، حيث هاجمها الألمان وقاومت بصلابة، قبل أن تستلم لتصدر أوامر هتلر بإبادة جميع سكانها. بالفعل تم نسف أهالى القرية اللاجئين للكنيسة، ليُقتل نحو 642 شخصًا بدم بارد، بينهم أكثر من مائتى طفل.
تحدث آباتى مُعلقًا على الاحتفال السنوى الذى يقيمه الفرنسيون لإحياء ذكرى ضحايا قرية الرعب، وقال إن ما فعله النازيون الألمان بالقرية الصغيرة هو نذر يسير مما فعله المستعمرون الفرنسيون فى آلاف القرى الجزائرية خلال الاستعمار. قامت الدنيا ولم تقعد، لكن التاريخ كتاب فاضح لبلغاء السياسة وصائغى الشعارات الرنانة.
عند اندلاع المقاومة الجزائرية للاحتلال اختار الجنرال بيجو خيار الترهيب إلى أقصى مدى لوأد أى روح للمقاومة. كانت بعض العائلات الجزائرية تلجأ للكهوف فى الجبال طلبا للأمان من نيران ووحشية الحرب، وأمر بيجو بوضع غازات مميتة على مداخل الكهوف، ليحترق الأطفال والنساء داخلها. وصف أحد الضباط المكلفين بتحويل أحد الكهوف إلى مقبرة فى أغسطس 1945 المشهد بأنه شديد البشاعة، فجثث الأطفال ملقاة عارية ومشوهة، وأفواههم مفتوحة كما لو كانوا يطلبون الإغاثة.
فى الخمسينيات خدم فرانسو ميتران(رئيس فرنسا 1981-1995) كوزير خارجية لفرنسا، وأصدر أوامر قتل خارج القانون ضد ثوار الجزائر، كان من بينها أوامر بالتعذيب حتى الموت.
ولدينا شهادة مُهمة للضابط الفرنسى بول أوسارس فى مذكراته تشير إلى أنه مارس شخصيا أساليب قمع وحشية ضد الثوار الجزائريين كان من بينها التعذيب الجسدى والنفسى والقتل العمد. وقال إن ميتران وساسة فرنسيين آخرين كانوا يحثوننا على تنفيذ أوامر التصفية دون تردد.
لم تقتصر ماكينة الإرهاب الفرنسى على الجزائريين وحدهم وإنما امتدت إلى الفرنسيين المعارضين لاحتلال بلدهم للجزائر، ففى 17 اكتوبر سنة 1961 نظم مثقفون فرنسيون بمظاهرات حاشدة ضد الحرب فى الجزائر وواجها موريس بابون مدير شرطة باريس بعنف شديد وصل إلى إلقاء القبض على المتظاهرين وتقييدهم وإلقائهم فى نهر السين.
وهناك نماذج حية للمثقفين الفرنسيين رأت فى القمع الفرنسى توحشا وانحطاطا أخلاقيا، منهم العالم موريس أودان، وهو أستاذ فى علم الرياضيات، كان يعمل فى جامعة الجزائر وساند الثوار وقبض عليه بتهمة إيواء مسلحين جزائريين وتعرض للتعذيب الشديد وبعد عشرة أيام أعلنت فرنسا أنه هرب خلال نقله من سجن إلى آخر. واستمرت الرواية الرسمية سائدة حتى سنة 2014 عندما قال الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند أن أودان لم يهرب وأنه مات تحت التعذيب.
رغم هذا السجل المُغرق فى القبح، والمسجل والموثق فى عدة كتب ووثائق ترفض فرنسا الاعتذار الرسمى عن جرائم جنرالاتها فى الجزائر، والمؤسف أن تقوم الدنيا ولا تقعد فى بلد يتغنى بالحريات ضد صحافى حُر قال كلمته. هكذا قررت قناة «آر تى إل» التى يقدم فيها ميشال آباتى برنامجا تلفزيونيا تعليق ظهوره تحت باب غضب الجمهور ورسائلهم الاحتجاجية. غير أن آباتى ردَّ باستقالته، مؤكدا أنه انتصر لضميره ولن يُغير موقفه.
وقال إنه اختار الوقوف إلى جانب الحقيقة التاريخية، مشيرًا إلى أن القليل من الفرنسيين فقط من يملكون الجرأة للاعتراف بجرائم الاستعمار. هاجم الصحفى الفرنسى الأصوات التى ترفض مواجهة التاريخ، قائلًا: «رأيت خلال الأيام الأخيرة هؤلاء الوطنيين المزيفين الذين تزعجهم الحقائق التاريخية. لكننى ما زلت آمل أن يأتى يوم تعترف فيه فرنسا بوحشية جزء من ماضيها الاستعمارى».
ونحن نآمل أن نرى هذا اليوم الذى تستيقظ فيه ضمائر أصحاب المناصب الرفيعة والزعماء لنصرة الحق والحقيقة. والله أعلم.