واقع سوريا الجديد
ميلاد فليفل
كانت سوريا على طوال تاريخها ملتقى لحضارات وثقافات عدة شكل هذا التاريخ تنوع طائفيا وعرقيا وثقافيا ربما لم تحظي به بلدا عربية آخر إذا تشكل المجتمع السوري من طوائف دينية عدة من مسلمين سنة والكثير من طوائف الشيعة من العلويين والإسماعيليين وبعض المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت كما تكونت على طوال تاريخها أيضا طوائف عرقية كثيرة مثل الأكراد وغيرهم كل هذا التنوع قد شكل نسيجا لمجتمع فريدا في تنوعه وثرائه ,
هذه التركيبة الفريدة والثرية التي ربما لم يحظ بها مجتمعا آخر بدلا من أن تصبح وقودا للتنمية والتعدد وتبادل الثقافات لدفع سوريا نحو الأمام أصبحت لسبب أو لآخر وقود لصدام طائفي وعرقي يظهر تأثيره من آن لآخر ليس في العصر الحديث فقط بل على طول القرن الماضي , ومما يزيد الأمر تعقيدا أن التركيبة السكانية قد تغيرت ربما كليا في أعقاب أحداث ال2011 حين ثار بعض السوريين على حكم بشار الأسد مما دفع أكثر من 9 ملايين سوري إلى الهجرة حين اتخذت الأوضاع في سوريا حينها مسارا مسلحا واشتعلت الحرب الداخلية والاقتتال على مدار ثلاثة عشر عاماً ,
هذه المواجهات العنيفة خلفت خلفها الكثير من الدمار في البنية التحتية لسوريا وترك الكثير من الضغينة بين أفراد المجتمع الواحد, ومع تولي أحمد الشرع الذي كان يعرف سابقا باسم أبي محمد الجولاني قائد جبهة النصرة الحكم في سوريا تفجرت الأوضاع الطائفية في سوريا أكثر وأكثر حيث تابع العالم الأحداث الدامية والمؤسفة التي وقعت يوم السادس من مارس حتى العاشر من نفس الشهر والتي شكلت انتقاما جماعيا من طائفة العلويين المتمركزة في الساحل السوري الشمالي تلك الطائفة المنتمي لها للرئيس السوري المخلوع بشار الأسد
مما شكل تخوفا لدى الكثير من الأقليات في سوريا عن واقع سوريا الجديد ومستقبلها في ظل وُجود سلطة ربما تتجاهل التنوع الطائفي والعرقي الكبير للمجتمع السوري وتتعامل مع الدولة السورية بمنطق المنتصر والمهزوم , حتى لجاءت طائفة العلويين لإحدى القواعد الروسية طلبا للحماية من بطش بعض الجماعات المسلحة بهم ولم يتسن للدروز السوريين إلا إلى اللجوء إلى إسرائيل في الجنوب طلبا لحماية أو فرار من واقع قد يروه أكثر ظلاما من ذي قبل .
وبدلا من أن تقدم الإدارة السورية الجديدة رؤية شاملة تكون مظلة يحتمي بها جميع أفراد الشعب السوري بكل طوائفه لجاءت للتعليق عن الأحداث بمنطق نحن وهم وكأن سوريا بعد أربعة عشر عاما من الصراع أصبحت فريقين أحدهم فائزا وآخر خاسر بدل من أن تكون سوريا فعلا لجميع السوريين وتكون الإدارة الجديدة حكما يشمل السوريين جميعهم تحت مظلته -مع مراعاة التنوع في المجتمع- لتوحيد الجميع في إطار الدولة السورية من خلال المشاركة السياسية الفعالة .
كل هذا يحدث مع تربص الكيان الإسرائيلي بسوريا ليس فقط منذ سقوط نظام بشار الأسد لكنه منذ اندلاع المواجهات في المجتمع السوري منذ 2011 حتى الآن , فلم تترك إسرائيل فرصة بعد سقوط بشار الأسد حتى شنت هجوما جويا وبحريا تبعها هجوما بريا على جميع مواقع الجيش السوري واحتلت المنطقة العازلة من الجولان حتى جبل الشيخ مبررة ذلك أمام العالم أن اتفاق عزل القوات الموقع عام 1974 قد أصبح ملغى منذ سقوط الجيش السوري لأنه ببساطة ليس هناك من ينفذه على الجانب الآخر
والأسوأ من هذا أن رئيس وزرائها قد أعلن للعالم أن الوُجود الإسرائيلي على الأراضي السورية غير محدد المدة وقدمت إسرائيل نفسها للعالم في الأسابيع الماضية على أساس أنها حامية لحقوق الأقليات في سوريا مستغلة بالطبع الوضع السوري المنقسم وعدم قدرة الإدارة الجديدة على استيعاب السوريين تحت مظلتها لتصبح من التناقض الواضح والمؤسف أن الدولة التي ارتكبت مذابح ضد الإنسانية ومتهمة في عدة قضايا دولية أصبحت هي من يدافع عن حقوق الأقليات السورية .
إن الواقع الجديد الذي تفرضه الأحداث الراهنة في كل منطقة الشرق الأوسط يجعلنا نقف لنفكر أن التفرقة والطائفية لن يصب إلا في صالح إسرائيل وأن الدعوات التي أصبحت صريحة تدعو إسرائيل لمزيد من التوسع تجعلنا أمام واقع جديد يفرض الكثير من الحذر والحيطة ليس فقط على سوريا بل على جميع الدول العربية لتجنب التفرقة ونبذ الطائفية بجميع صورها والاتحاد والتماسك والوقوف خلف القيادات الوطنية والسياسية الشريفة للحفاظ على الدول في ظل هذه الظروف الدقيقة التي يمر بها العالم .