شغف أكاديمي صيني بالخرز المصري القديم
كمال جاب الله
كاتب صحفي ومحاضر جامعي
kgaballa@ahram.org.eg
في مثل هذه الأيام من العام الماضي، 2024، زرت متحف الآثار في بكين، التابع للأكاديمية الصينية للتاريخ، ضمن برنامج مكثف، نظمه معهد الصحافة بالأكاديمية الصينية للعلوم، وذلك، للمشاركة في أعمال المنتدى الدولي الثالث للديمقراطية. المتحف يعد معلمًا تاريخيًا وثقافيًا صينيًا مبهرًا، يضم خمسة أقسام، تتيح للزائرين الاندماج بمشاعرهم – وبجميع حواسهم – مع الآثار الصينية منذ العصور القديمة، وحتى النهضة الحديثة، لأمة موحدة متعددة الأعراق، وتشكل التبادلات بين الثقافات على طول طرق الحرير القديمة سواء البرية أو عبر السفن قسمًا رئيسيًا بالمعرض.
في أثناء زيارتي لمعهد الآثار التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، وتفقدي لأقسام المتحف – الذي فتح أبوابه للزائرين منذ عامين فقط – مرت بخاطري سيرة علمية عطرة، لمؤسس علم الآثار الصيني، وخبير المصريات، شيا ناي (1910-1985)، الذي لعب دورًا مهمًا للغاية في التبادل الثقافي والأكاديمي، بين مصر والصين.
منذ 7 سنوات وتحديدًا في عام 2018، وقعت مصر والصين اتفاقية لمشروع أثري مشترك في معبد مونتو بالأقصر، وجرى وصف الحدث – وقتها – بأنه أول تعاون ثنائي في مجال التنقيب. وحقيقة الأمر، أنها لم تكن المرة الأولى، لأنه منذ أكثر من 80 عامًا، قام خبير المصريات شيا ناي – الذي شغل لاحقًا منصب مدير معهد الآثار بالأكاديمية الصينية للعلوم – بزيارتين إلى مصر، لإجراء بحوث ودراسات أثرية.
السيرة الكاملة لخبير المصريات، الصيني الجليل، التي ربما لا يعلم عنها كثيرون – وجدتها – بالصدفة – في دراسة قيمة بعنوان: “شيا ناي رائد علم الآثار، وجهوده في إحياء الخرز المصري القديم”، استأذنت كاتبها، شين جه، في نشر مضمونها.
وُلد شيا ناي عام 1910، بمقاطعة تشجيانج الصينية، لعائلة ثرية تعمل في التجارة، وتخرج في جامعة تشينجهوا عام 1934، من قسم التاريخ، وتلقى تعليمه وتدريبه على يد نخبة من أبرز المؤرخين، وفي شهر أكتوبر من العام نفسه، اجتاز امتحان القبول للبعثات الدراسية، وسافر إلى المملكة المتحدة لمواصلة دراسته العليا هناك.
في جامعة لندن، بدأ شيا ناي دراسته في معهد كورتولد للفنون، ثم انتقل في العام التالي إلى قسم المصريات، حيث تخصص في علم الآثار المصري، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه. خلال خمس سنوات ونصف من دراسته في الخارج، تعمق في دراسة النظريات والأساليب الحديثة في علم الآثار، وتعلم مهارات ترميم وصيانة وإدارة وعرض القطع الأثرية، إلى جانب إتقانه تقنيات صب البرونز. كما تلقى تدريبًا متكاملًا في علم الآثار الميداني، مما مكنه لاحقًا من نقل هذه المنهجية العلمية إلى الصين، ليكون له دور كبير في تأسيس علم الآثار الصيني الحديث.
بين عامي 1937 و1939، وبتوجيه من أستاذه عالم الآثار الشهير ستيفن جلانفيل، شارك شيا ناي في أعمال التنقيب الأثري في موقع أرمنت بمصر، وموقع تل الدوير في فلسطين، كما نشر دراسات حول الكتابة الهيروغليفية المصرية القديمة.
في عام 1938، بدأ شيا ناي دراسة الدكتوراه في علم الآثار المصري، وكان متحف المصريات التابع لكلية الآثار بجامعة لندن يضم مجموعة كبيرة من الخرز المصري القديم، التي اكتشفها عالم الآثار فلندرز بيتري خلال التنقيب في مصر. اعتبر بيتري البحث في هذا الموضوع مسألة أساسية في تطور علم المصريات، مما دفع شيا ناي إلى الاستفادة من المصادر الأولية التي وفرها المتحف، حيث بدأ بجمع هذه المجموعة ودراستها بشكل منهجي ومفصل.
من خلال بحثه، قرر شيا ناي أن يكون الخرز المصري القديم موضوع أطروحته للدكتوراه، وقام بإعداد عدد كبير من البطاقات البحثية، صنف فيها 1760 حبة خرز من مجموعة بيتري، وفق: الشكل، اللون، المادة، النقوش، موقع الاكتشاف، الفترة الزمنية، والاستخدام، مما يعكس مدى اجتهاده وثبات أساسه الأكاديمي.
بين أواخر أكتوبر 1939 وديسمبر 1940، عاد شيا ناي – مرة أخرى – إلى مصر لمواصلة أبحاثه في المتحف المصري بالقاهرة، حيث أجرى دراسة تصنيفية لحبات الخرز المصري القديم، واستكمل أطروحته للدكتوراه. وخلال إقامته في القاهرة، كتب بحثين متخصصين نُشرا عام 1944 في مجلات أكاديمية عالمية مرموقة.
خلال هذه الفترة، أقام شيا ناي علاقات أكاديمية وثيقة مع علماء المصريات في المتحف المصري، كما قدم بعض المعلومات البحثية لعالم المصريات البريطاني، بومجارت، خلال تأليفه كتاب “الثقافة المصرية في عصر ما قبل الأسرات”.
في صيف عام 1943، أكمل شيا ناي أطروحته بعنوان “القيمة الأثرية للخرز المصري القديم” وأرسلها إلى المملكة المتحدة، وفي عام 1946، منحت جامعة لندن شيا ناي درجة الدكتوراه في علم الآثار المصري بدون مناقشة، نظرًا للقيمة الأكاديمية لأطروحته، والتي ساهمت في تعزيز مكانته العلمية في مجال الآثار وعلم المصريات على المستوى الدولي. وحتى بعد مرور أكثر من 70 عامًا، لا تزال تؤثر بشكل كبير في أبحاث علم المصريات، وخلال السنوات الأخيرة، تم نشرها بالإنجليزية والعربية، بالإضافة إلى الصينية المبسطة والتقليدية.
في الوقت نفسه، نُشرت أطروحة الدكتوراه التي أعدها شيا ناي كمرجع أكاديمي تحت عنوان “دراسة حول الخرز المصري القديم”، ولأكثر من سبعين عامًا، ومع توسع مجال التنقيب في مصر، وتقدم تقنيات الحفر، وزيادة الإلمام بالوثائق الأثرية المُكتشفة، زادت معرفة الأوساط الأثرية بحُلي مصر القديمة. ومع ذلك، وكما قال ستيفن كويرك، أستاذ علم المصريات البريطاني: “كانت أطروحة شيا ناي متقنة لدرجة جعلت الباحثين يترددون من تكرار العمل نفسه، لأنها ببساطة كانت كاملة”.
في الفصل الأول من أطروحته للدكتوراه، اقتبس شيا ناي عبارة شهيرة لعالم الآثار البريطاني فلندرز بيتري: “الخرز والفخار هما الأبجدية الأساسية لعلم الآثار”، واليوم، لا تقتصر أهمية الخرز على كونه علامة فارقة في التأريخ الزمني لعلم الآثار المصري، بل يُعتبر أيضًا دليلًا مهمًا يكشف عن التفاعلات الثقافية بين الحضارات القديمة في آسيا وأفريقيا.
في الفترة التي سبقت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين، وجه شيا ناي دعوة إلى عالم الآثار المصري مصطفى الأمير من جامعة الإسكندرية لإلقاء محاضرات في الصين حول “علم المصريات” و”الكتابة الهيروغليفية المصرية”. وفي عام 1959، زار عالم الآثار المصري أحمد فخري – من جامعة القاهرة – الصين لإلقاء سلسلة من المحاضرات. وبعد سياسة الإصلاح والانفتاح، توسعت مشاركة شيا ناي في التبادل الأكاديمي الدولي، واكتسبت إنجازاته الأثرية اعترافًا واسعًا في الأوساط العلمية والعالمية، ونال العديد من الجوائز الأكاديمية. واليوم، يواصل علماء الآثار الصينيون المتخصصون في علم المصريات، والذين يعدون تلاميذه، مسيرته العلمية، مما يوفر فرصًا جديدة لدراسة مجال علم المصريات في الصين.