شارل فؤاد المصري يكتب :
حقوق الإنسان.. فجوة النصوص والتطبيق (3-3)
استكمالًا للمقال السابق في سلسلة مقالات حقوق الإنسان، التي حضرتُ جلسةً نقاشيةً مغلقةً قبل عدة أيام بدعوة من المجلس القومي لحقوق الإنسان، وكانت بعنوان “حقوق الإنسان في مصر بعيون مثقفيها ومفكريها”.
وكان المتحدث الرئيس فيها الكاتب والمفكر الدكتور سمير مرقس الذي شخَّص حالة حقوق الإنسان في مصر وما هو المطلوب لإصلاحها لتكون سندًا للدولة من خلال المجلس القومي لحقوق الإنسان.
أتناول في ضوء ما طرحه الزملاء والخبراء بعض الحلول تحت عنوان “فجوة النصوص والتطبيق.. تطوير المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر بين التحديات والفرص”.
تُعَدُّ قضية الفجوة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي إشكاليةً جوهريةً في مسار تعزيز حقوق الإنسان عالميًّا، وهو ما تحدثنا عنه في الجزء الأول. وفي مصر، يبرز هذا التحدي بوضوح في عمل المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي تأسس عام 2003 كمؤسسة وطنية تُعنى بحماية الحقوق الأساسية للمواطنين.
ورغم النصوص “التقدمية” التي تُعرِّف اختصاصاته، إلا أن الممارسة العملية تثير تساؤلات حول فعاليته واستقلاليته، حيث يتبادر إلى الذهن لدى كثيرين أن دوره يقتصر على “تبييض صورة الحكومة”، بدلًا من كونه أداةً للرقابة والتغيير.
فكيف يمكن سد هذه الفجوة، وتحويل المجلس إلى مؤسسة فاعلة تُحدث تأثيرًا ملموسًا؟ رغم أن هناك جهودًا ملموسة إيجابية ومحاولةً جادةً عرفنا تفاصيلها من السيد محمد أنور السادات (أمين لجنة الحقوق المدنية والسياسية) والسفيرة مشيرة خطاب، رئيس المجلس اللذين رحَّبا بأي انتقاد أو مقترحات للتطوير، خاصةً أنه لم يتبقَّ على هذه الدورة سوى أقل من عام.
الإشكالية الأساسية هي الثقة المفقودة وإشكالية “الغسيل الأخلاقي”. حيث يُواجه المجلس أزمة ثقة من قبل قطاعات واسعة من المجتمع، خاصةً مع تواتر اتهامات بتوظيفه في تحسين الصورة الدولية لمصر “وإن كنت أرى أن هذا واجب وطني لا نقاش فيه”، دون معالجة جذرية لملفات مثل حرية التعبير، أو حقوق السجناء. وعلى ذكر هذه النقطة، قالت السفيرة مشيرة خطاب: “إن الخارج يأخذ علينا أننا نقوم بإبلاغ الداخلية بالزيارة، ويريدون أن تكون مفاجئة”، مع العلم أنه لم تُؤاخَذ دولة مغاربية على ذلك عندما أوضحوا لهم أن ذلك يتم لحماية وفد الزيارة، فتفهموا الأمر. ولكن لدينا –هنا– تبرز ازدواجية المعايير.
على أي حال، هذه الانتقادات تعكس فجوةً بين الخطاب الرسمي الذي تروج له الدولة عبر المجلس، وبين الواقع الذي يعيشه النشطاء والمدافعون عن الحقوق.
ولتجاوز هذه الأزمة، لا بد من إصلاحات هيكلية تبدأ بمراجعة القانون المنظم للمجلس (القانون 94 لسنة 2003)، الذي يُنظَر إليه كمصدر لإضعاف استقلاليته، حيث تُعيِّن الحكومة غالبية أعضائه، وتحدد أولويات عمله.
هنا، يصبح التعديل التشريعي ضرورةً لضمان تمثيل أوسع للمجتمع المدني، ومنح المجلس صلاحيات رقابية حقيقية، مثل التحقيق في الشكاوى دون قيود، أو كما طلب المخرج الكبير “مجدي أحمد علي” أن يكون لأعضاء المجلس أي نوع من أنواع الحصانة للتدخل السريع حينما يريدون خدمةً للهدف الأسمى.
وأيضًا الدور الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي لرأب الهوة مع الشباب، لأنه لا يخفى على أحد أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت ساحةً رئيسية للتأثير في الرأي العام، خاصةً لدى الشباب الذي قدَّرهم المفكر سمير مرقس بحوالي 80% من الشعب المصري (شباب ما بين 15 و45 سنة) الذين يشكلون غالبية السكان في مصر.
لكن توظيف المجلس لهذه المنصات لا يزال ضعيفًا، وغالبًا ما يقتصر على نشر بيانات رسمية بلغة تقليدية. ولتحقيق التواصل الفعال، وإن كانوا قد بدأوا بالفعل –وهو المطلب نفسه الذي طلبته الزميلة العزيزة أمينة خيري في كلمتها– مطالبةً بتبني استراتيجية إعلامية مبتكرة.
في هذا الشأن، أقترح أن يكون هناك محتوى تفاعلي عبارة عن:
فيديوهات قصيرة تُنشر قصص نجاح أو تُعرِّف بالحقوق الأساسية بلغة بسيطة.
حوار مفتوح عبر منصات للنقاش المباشر مع الخبراء والشباب حول قضايا مثل التحرش أو حرية الإبداع.
شراكات مع مُؤثِّرين.. التعاون مع ناشطين ومدونين ذوي مصداقية لتعزيز الرسائل الحقوقية.
مبادرات رقمية.. تطبيقات إلكترونية لتلقي الشكاوى، أو حملات مثل “حقك تعرفه” لتوعية المواطنين.
مثل هذه الأمور ستُحسِّن تلقائيًّا من الصورة.
أما المقترح الأهم في ضوء إصلاح القانون، هو أن يتم طرحه في حوار مجتمعي شامل وحقيقي، حيث لا يمكن فصل تطوير المجلس عن إصلاح الإطار التشريعي الذي يحكمه، وهذا يتطلب فتح نقاش عام حول التعديلات المقترحة، بدلًا من إقرارها غيابيًّا. ويمكن تنظيم جلسات استماع في الجامعات والمحافظات، أو استخدام استطلاعات الرأي الإلكترونية لجمع آراء المواطنين.
ومن المعروف أن ضمان استقلالية أي مؤسسة من الأولويات التشريعية، مثل:
ضمان الاستقلال المالي والإداري ويتمثل في فصل تمويل المجلس عن الحكومة.
التمثيل المتنوع: إشراك الناشطين، والأكاديميين.. وأعلم أن كلمة “ناشطين” مُزعِجة، لكنها واقع يجب التعامل معه تحت مظلة قانونية ووطنية واصطفاف وطني، والجميع مصريين مصريين مصريين.
منح المجلس صلاحيات رقابية: مثل حق طلب المعلومات من الجهات الحكومية، وإحالة القضايا للقضاء.
ولا يقتصر تعزيز حقوق الإنسان على النشطاء السياسيين، بل هو مسؤولية مشتركة مع المثقفين الذين يشكلون رأيًا عامًّا.
هنا، يمكن للمجلس تنظيم ندوات فكرية مع كُتّاب وفنانين لمناقشة حقوق الإنسان في سياق ثقافي أوسع، وإصدار منصة إلكترونية تُنشر أبحاثًا وترجمات لمراجع عالمية، ودمج مفاهيم الحقوق في المناهج التعليمية بالتعاون مع وزارة التعليم (كما فعلوا في بعض الجامعات).
أما المقترح الذي أفضله أيضًا، فهو وضع خطة استرشادية للأعضاء الجدد من قبل الأعضاء القدامى الذين قاربت ولايتهم على الانتهاء، حيث تكون نموذجًا ثابتًا من حيث الفكرة ومتطورًا من حيث المضمون، لأن الأعضاء الجدد في المجلس يحتاجون إلى أدلة عملية تُعرِّفهم بالتحديات التاريخية والواقعية، مثل:
إنجازات المجلس وإخفاقاته.
كيفية التوفيق بين الضغوط السياسية والمبادئ الحقوقية.
دراسة نماذج ناجحة لمجالس حقوقية في دول مشابهة.
عقد ورش عمل مع خبراء دوليين حول آليات الرصد والتوثيق.
إن فجوة تطوير المجلس القومي لحقوق الإنسان ليست قدرًا، وليست مسألة إدارية فحسب، بل هي اختبار لإرادة سياسية واجتماعية لتحويل النصوص إلى ممارسات. التحدي الأكبر يكمن في تجاوز النظرة التشكيكية عبر خطوات ملموسة كما قلت مثل إصلاح القانون، وتفعيل الحوار المجتمعي، وإشراك الشباب عبر أدوات العصر. فقط حينها يمكن أن يتحول المجلس من “أداة دعائية” إلى صمام أمان حقيقي لحماية كرامة المصريين.