ذكريات، ذكريات عبرت أفق خيالي..
“يا ليلة العيد آنستينا وجددتي الأمل فينا..”
بقلم : حمدي رزق
يا ليلة العيد، ليلة العيد لها اعتبار خاص، في بلدتنا ” منوف ” الواقعة وسط الدلتا ، مباشرة علي ” البحر الأعمي ” تتوسط شريط القطار مابين شبين الكوم والقاهرة ، يحتفون بليلة العيد علي طريقتهم الخاصة ..
ناهيك عن الرؤية والهلال ، وتهنئة فضيلة مفتي الديار ، العيد الشعبي عندما تصدح أم كلثوم ب “ليلة العيد” تفج الفرحة من قعور البيوت، غبطة وسرور..
العيد في معجمنا الشعبي المنوفي عيدين ،العيد الصغير و العيد الكبير ، الكبير عيد الأضحى، وفي العيد الكبير يفضلون اللحم “الكندوز” لحم البقر البالغ، بلونه الأحمر الداكن مقارنةً بالبتلو.
العيد الصغير (عيد الفطر) ليس كمثله عيد ، يسمونه عيد الزواج بعد صيام ، و يتندرون الفطور للعروسة والعريس والجري للمتاعيس.. عكسا من العيد الكبير ، مطبخ العيد الصغير طيور بأنواعها، تستعد الحبوبة (جدتي روحية) للعيد الصغير بأطايب( الزفر ) ، والزفر طيور بلدية ذات مذاق عجيب تتذوقه في الشوربة (المرق)، هذا قبل أن تغزو ” الفراخ البيضاء ” مطبخنا الذي كان عامرا .. ويجعله عامر .
جدتى (الأروبة) كانت “تتنؤوز” على من يطبخن الفراخ البيضاء، وتسخر من مرقتها، مرقة، قال ايه مرقة، زى ميه الفول النابت، وما كان يدخل الفول النابت (أبو زلومة) بيت جدتى إلا فى حالات الضرورة القصوى، يوم شربة الخروع وهذا حكى قديم.
**
ليوم العيد فى بيت جدتى طقوسه الخاصة، تأتى (البلانة) وهى خلاف ( الماشطة) ، وساعات بلانة وماشطة، والماشطة الداية، المولدة، التى تستقبل الأطفال على راحة يديها بعد ماراثون من الولادة وآلامها، آلام الطلق، واستقبال الحياة.
البلانة قصة أخرى، تأتى صباحاً لتبدأ فى تنعيم الوجوه المغبرة من وعثاء الشقى بعجينة العسل، تصنعها بالسكر والليمون على نار السبرتاية الهادئة حتى تغلي وتتبخر مياهها، ويتخثر قوامها، وتصبح لينة، تبرد ولكن تظل دافئة، وبيد مدربة وخبيرة تتقفى أثر الشعر الزائد فى جسد لدن، وتزجج الحواجب، وتقرص الخدود حتى تحمر، يكاد يبك منها الدم، لا تترك شعرة ناتئة فى ساق أو ذراع أو وجه إلا ونزعتها برفق، وسط تأوهات رقيقة من صغيرات السن من الزوجات.
وليس عليهن حرج أن تجلسن صاغرات بين أيدي البلانة ، القواعد من النساء أيضا يتجملن للعيد ، تضحك جدتى ساخرة، الجمال جمال الروح يا روح أمك انت وهى.
تتوالى على الحجرة الداخلية ( حجرة جدتي وجحرها ) بنات الجيران واحدة بعد الأخرى، وهن يتضاحكن ويتخفين، وفرصة عظيمة للبلانة أن تستكشف مواطن الجمال فى مراهقة صغيرة، ( بنت بنوت ) جاءت تسعى للمسة جمال، تتفحص عودها، على طريقة الاروبة “مارى منيب”، لم تحظى جدتى بمشاهدة فيلم ” الحموات الفاتنات” ، لكانت جسدت دورها في الفيلم حرفيا، فيها من مارى منيب الكثير خاصة حركة الفم المزموم استنكافا.
البلانة تعاين البضاعة، لديها طلبات زواج من حموات فاتنات قررن الخطبة لأولادهن ، تتفحص بعين خبيرة، الوجه المليح، الأنف الصغير، رائحة الفم، دقة الدقن، كانت لجدتى دقن صغيور بدقة عصفور خضراء، كنت اتحسسها بغية فك طلاسمها ، ولكنها لم تجيب على سؤالى : مين دقها يا ستى، ترد والله ما انا عارفه، دقن ستك مثل دقن الباشا طول عمرها خضراء، تضحك من قلبها.
بأصابعها تقيس ( البلانة ) الخصر الضيق، وتتحسس النهد الناضج، تتكهرب البنات عند اللمس المدرب، تجس الأيدى البضة، وتتعقب الكعب المدور، وتدون فى عقلها، المربربة والنحيفة، البضة كالبطة، والعجفاء، كانت مخزن أسرار جمال بنات الناحية.
كانت حموات المستقبل مرجعيتهن فى السؤال عن بنت (فلان الفلانى)، هى البلانة ، بالمناسبة أسمها ( فهيمة من فرط المفهومية والذكاء الفطري ليس الاصطناعي ، البلانة هى عادة الخاطبة، وكانت العجائز مثل جدتى يرشونها بالطعام والشراب والقروش، وزر سمنة زبدة، وقمع سكر، وقزازة شربات، كانت شهادتها واجبة وملزمة ومستوجبة فى الزواج، ولكنها كانت عجوزاً تعتنق مبدأ “يا بخت من وفق راسين فى الحلال”.
البلانة فهيمة كانت قصيرة و سحنتها بيضاء من غير سوء ، عادة ما تزورنا الخميس الأول من كل شهر عربي ، وزيارة استثنائية في العيد، كانت سيدة أنيقة نظيفة حلوة المعشر، بقها بينقط شهد مكرر، أحببتها جداً، وكنت أتلصص على مقدمها، فإذا أطلت أسرعت لإخبار جدتى، البلانة فهيمة جت، البلانة جت، تضحك ملء شدقيها، يسعدك يا حمادة، بطل شقاوة وروح هات حلاوة طحينية من عند عمك صالح “أبو طه البقال”.
جدتى كانت منشغلة باستقبال “فهيمة” البلانة، وخوض ملحمة “النتف” الكبرى، لا تغادر فهيمة إلا واحمرت وجوه نسوة البيت والبيوت المجاورة ، وتلمع وجوههن لمعة طالبات المتعة، يغتسلن بماء الورد مذاب فى طشت الحموم، يرتدين ثياب نظيفة بورد، ويخرجن إلى الباحة الداخلية يسرحن شعورهن المبلولة بمشطة من العاج، وكأنهن ساحرات حضرن باستدعاء من جنية البحور التى كانت تخشاها جدتى فى خيالاتها المفعمة بقصص العفاريت والجنيات العذارى اللاتى يترصدن شباب الناحية.
العيد الصغير كعادتنا كان عيد الجواز، نكتب الكتاب ونعلي الجواب، أيامه أيام السعد والوعد، الساحرات يسحرن الرجال، ويتجهزن لليلة العيد بقميص نوم لاميه لميع، عادة أحمر، كله أحمر فى أحمر، حتى اللمبة السهارى حمراء، ليلة حمراء يتجهزن لها بشغف، وبطعام الفرن الشهى مرصوص بأناقة على طبلية خشب أبيض على حصير ملون طرى مفروش أمام الباب.
يجلس الرجال فى صدارة المشهد والنساء من خلف الباب، يناولونهم أطايب الطعام، إلا جدتى وسط الرجال ، كانت تتصدر الطبلية مشمرة عن ساعدها الأبيض، كانت بيضاء تسر الناظرين. سألت أمى “رجاء” ذات مرة ونحن نسرى ليلاً ونقول السبع كلمات، لماذا هى سمراء وجدتي روحية بيضاء؟
ضحكت أمي الله يرحمها ويبشبش الطوبة تحت راسها ، وحارت فى التفسير، وكبرت وقرأت في قانون “مندل” ، فعرفت أن أمى نتاج طفرة متنحية من جدتي نفرتيتي ، لأن جدى وجدتى من ذوى البشرة البيضاء من نسل كليوباترا .